الجمعة، 7 مارس 2025
عن الرفاق ...
الاثنين، 3 يوليو 2023
لم أكن سعيداً
ارتكبتُ أكبَر إثمٍ اقترفه إنسَان: لم أكُن سعيداً.
خورخي لويس بورخيس
الليل يصرعني في سباق محموم نحو البقاء، أتحسس نفسي فلا أجدني، من أنا في الثلث الأخير من هذا الليل المفترس! فيجيبني بورخيس مرة أخرى: (لست متأكداً هل أنا موجود أم لا، أنا كل الكتاب الذين قرأت لهم، وكل الناس الذين قابلت وكل النساء اللواتي أحببت وكل المدن التي زرت).
وأنا لم أعد أخشى على نفسي النسيان وذاكرة الناس، فقد نسي التاريخ فاسيلي آرخيبوڤ وتذكر هتلر والاسكندر وكل الفاتحين القتلة وقلدهم الأوسمة والبطولة، وتذكر ستالين وماو ونسي خورتشوف الذي كان أكثر حنكة وذكاء بل وفعالية حتى بالمقاييس الميكافيلية للحكم في زمن تردي الاشتراكية واهتزاز الثقة وديناميكية المرحلة، وتذكر قيس بن الملوح صاحب ليلى ونسي الصمة القشيري صاحب ريا وهو القائل:
بَكَت عَينُك اليُسرى فَلَمّا زَجَرتَها
عَنِ الجَهلِ بَعدَ الحِلمِ أَسبَلَتا مَعا
فَإنّي وَجَدتُ اللَومَ لايُذهِبُ الهَوى
وَلَكِن وَجَدتُ اليَأس أَجدى وَأَنفَعا
في بيتين فقط، خلد القشيري في عينيته الفريدة اكثر اللحظات الانسانية عمقاً وهشاشة، انه ما اسميه باليأس المقدس، وهو اليأس المتكون بعد تلك الدرجة الدقيقة من القتال والمحاولة، هو يأس لا يشبه يأس الضعفاء والمستسلمين، هو يأس الشجعان المتعبين من القتال والسقوط المستمر، هو يأس الأذكياء الذين تحروا كل سبل الأمل فخذلتهم، يأس من لو اطلعوا على الغيب لصدقهم في يئسهم، بهذا العمق بدا التاريخ ظالماً مرة أخرى حين نسي القشيري وريا وخلد قيس وليلى في السرديات الشعبية، تماما كما نسي آرخيبوف وخورتشوف، كم كان التاريخ مجرماً أمام بعدنا الانساني !
ثم كيف كان لمثلي أن ينجو في عالم من العابدين والعصاة، الصادقين والمخادعين، الخير والشر، وكنت مارقاً عن التصنيف والانتماءات الساذجة، متطرفاً في كل شيء حد الغرق، لم أفهم نفسي ليفهمني الناس، وكان الزمان مراً، والهوية الناقصة عار، والمارقون عن الجماعة شراذم، والكل في صراع محتدم بحثاً عن التوصيف واستكمال الهوية، ليكونوا مع الاخيار!
باسل
الاثنين، 28 مارس 2022
وطن البيلسان وذاكرة الهزائم
![]() |
ثم خسرنا أوطاننا، حين
عقرَ العربيُ خيلَه وباع أعرافَها في منصات عصبة الأمم، وحين خَفَتَ صهيلها ألقى
الجنودُ سيوفهم عند أسوار أورشليم، لم تخنهم جسارتهم أمام عدوهم كما خانتهم أمام
حبهم، بل آمنوا طواعية بأن سُنة الله في هذه المدينة تتابع الفاتحين والمراحل، وهم
جاءوا في زمن الهزائم.
ثم خسرنا الرفاق، فقط لأننا كبرنا، وضاقت بأحلامنا أزقة الحي وشوارعه الضيقة، ولأنَّ خوفنا من غدنا فاق حبنا لأمسنا ولذاكراتنا المتناثرة كالبيلسان على سطوح البيوت القديمة، فرحل الرفاق وأصبحوا يعودون للحي كل صيف، ثم عادوا على عجل ذات خريف بعد عامين، ثم انقطعت أخبارهم !
باسل
الثلاثاء، 19 يناير 2021
عن الديستوبيا وما بعد اللاأدرية
بعد سقوط
الاشتراكية العلمية كفكرة، وبزوال القوميات وانطفاء جذوة الثوار حول العالم، انتهت
آخر الأفكار العظيمة التي بدأت في عصر النهضة حين أهال
كوبرنيكوس التراب على النظرية البطلمية السائدة ليقدم لنا فكرة مركزية
الشمس Heliocentrism ، ثم جاء رجل بقسمات راهب قلب
التاريخ على رؤوسنا حين قال بالأصل المشترك للأنواع وما بات يعرف لاحقاً بالتطور الدارويني Evolution ،
والقول أن الاشتراكية هي آخر الأفكار العظيمة لا يعني الانتقاص من قيمة كل
الانجازات العلمية المعاصرة بتطبيقاتها المؤثرة في كافة مجالات حياتنا، لكنني
أتحدث عن الأفكار الشمولية التي شكلت مفترقات الحضارة البشرية في فهمنا لأنفسنا
وتاريخنا ومحيطنا الكوني، ويمكن ايجاد رابط مشترك بين هذه النظريات
الثلاث باجابتها على الأسئلة البديهية مثل أين نحن؟ وقد كانت الاجابة قاسية على
غطرستنا السابقة حين عرفنا عن عدم مركزيتنا في هذا الكون، في حين حاولت الداروينية
الاجابة على سؤال أكثر الحاحاً: من نحن وكيف وصلنا إلى هنا؟ أما الاشتراكية
العلمية فهي النتيجة الحتيمة لكل ما سبق من خيبات وتكمن أهميتها في الاجابة على
السؤال المخيف: ماذا سنفعل ؟ وبغض النظر عن الشكل الحالي لهذه الأفكار وما آلت
اليه حاليا من مسلمات علمية كمركزية الشمس، أو ساحة صراع علمي ديني كالداروينية،
أو نوستالجيا التجارب الطائشة كالاشتراكية، فهي لا تزال النظريات الأكثر أهمية في
تاريخنا البشري، شئت ذلك أم أبيت.
وبانتهاء حقبة النظريات
الكبرى، وبتعطل خوارزميات التطور الدارويني أمام خوارزميات الآلة والتكنولوجيا،
تحولت الأفكار إلى مسمى أقل رهبة ككلمة "المحتوى"، حيث يمكنك تقديم أي
فضلات فكرية تحت مسمى محتوى، وكمثال على ذلك فقد شاهدت قبل أيام "صانعة محتوى" يتابعها
الملايين قدمت فيديو تشرح فيه كيفية ازالة بقعة عن الملابس وبدأت بالشرح ان عليك
جلب قطعة قماشية أخرى كمنشفة بشرط أن تكون نظيفة وفرك البقعة، وانتهى المحتوى
العظيم وقد وعدت مقدمة المحتوى متابعيها - وهم حقا ملايين - أنها
ستعلمهم كيفية عمل الكبة في المقطع القادم، والذي أتخيل أنه سيبدأ كالتالي: نحضر
الكبة ثم نضعها في الفرن لمدة كذا .... لا أعرف كيف انحدرت البشرية إلى هذا الحد، لكن
عجلة التطور الدارويني لم تتوقف تماماً، حيث ان النخبة المنتقاة هربت من وحشة
الواقع إلى عزلتها وبدأت بانتاج أفكار دقيقة للخروج من الأنفاق المظلمة لهذا الزمن
السيبراني الوعر، وكأن فشل الاشتراكية في الاجابة على سؤال ماذا سنفعل أعاد طرح
الأسئلة الكبرى، لكننا هذه المرة بتنا أكثر حاجة لاجابة الاسئلة القديمة مثل: ماذا
بعد كل ذلك؟ أو ماذا حدث قبل كل ذلك؟ وهي الأسئلة التي تولت الأديان الاجابة عليها
منذ الأزل، وحين عجزت
اللاأدرية Agnosticism عن تخفيف وحشة هذه المرحلة، ولم يعد بالامكان الاكتفاء
بالقول أنك لا تعرف بماذا تؤمن، وكانت الأومنثية omnism التي
تتبنى فكرة الايمان بكل الأديان أقرب للشعر الرومانسي منها للعقيدة الحقيقية التي
يمكنها الاجابة على الأسئلة الجامحة، وفي لحظة حرجة من تاريخنا البشري، أطل علينا
رجل من الأراضي الوطيئة بين ألفيتين ليقدم لنا ال ietsism والتي
بتسارع سعي النخبة المعاصرة للخلاص الروحي لم يتم ترجمتها بشكل رسمي للعربية أو
الإنجليزية، وإن كنت سأقترح على مجامع اللغة العربية ترجمتها إلى (الشيئية) وهي
اعتقاد أن هناك نهاية، وهناك قوى عليا، وهناك كيان ميتافيزيقي خاج قدراتنا الحسية
الادراكية، ولكن لا داعي ولا حاجة للبحث أو الخوض في تفاصيل أخرى عن ما هيتها وما
تريده وما لا تريده منا، وبذلك فهي تخالف اللأدرية التي اتخذت الشك مخرجاً،
والعدمية nihilism التي تبنت النكران، وقد جعلتك ال ietsism قادرا
على أن تكون منتمياً لدين ما ولكن ايتسياً - شيئياً ان جازت ترجمتي - بنفس الوقت، وان كانت كلاسيكيات الأديان ترفض هذه الثنائية
وتعتبرها شكلاً مشوهاً لفكرة الأديان المعدة مسبقاً بقانون الآلة الثنائي القائم
على رقمين فقط، أي خيارين فقط، أن تؤمن به كله أو يسقط ايمانك وتصنيفك، ولكن
محاولة مجابهة الأديان بأي وسيلة ممكنة دائما تنتهي بالفشل بسبب ما ذكرته مسبقا في
تدوينة (الترنيمة والنظرية .. نهاية الصراع المزعوم)، وإن كانت هذه هي المحاولة
الأكثر أناقة للانتماء الديني الغير الكلاسيكي.
وما يجعل هذه الفكرة
بتلك العظمة، أنها أظهرت أهمية اللغة ووجود الاصطلاح فبعد ظهورها وصياغتها على يد
السياسي الهولندي رونالد بلاسترك، أظهرت أحد الدراسات أن 40% من الأوروبيين يتبنون
هذه الايدولوجيا التي لم تكن بحاجة لملائكة وأنبياء ودعاة بل لشخص واحد يقوم
بصياغة اصطلاح واحد فيتداعى الناس إليها تباعاً، وربما تكون سمة الأجيال القادمة
هي التقليل من المعتقدات والانتماءات بما يشبه وضع الايمان تحت نصل أوكام للوصول
للحد الأدنى من التفسيرات العقائدية لأكثر الحاجات الحاحاً فقط.
باســــل
الجمعة، 10 يناير 2020
سردية شرق النهر
وأذكرُ
يومَ وصلتها متعباً وقت السَحَر، 541 يوماً منذ سألتني موظفة المطار عن المكان
الذي سأقيم فيه، ووقتها لم أكن أعرف عن جغرافيا عمان سوى ما تأملته في خارطتها
أثناء رحلتي القصيرة من القاهرة وتلك الدوارات الثمانية التي تمتد ليس فقط كخط مكاني متصل يربطها شارع واحد بل كرزنامة زمنية
تعبر عن تاريخ المدينة الممتد منذ سكنت قبائل الشابسوغ الشركسية ما بات يعرف
لاحقاً بالدوار الأول، ويبدو أنني استغرقت الكثير من الوقت في صمتي حتى أنها غيرت
تسريحة شعرها بحركة خاطفة من ponytail
إلى
Bun ، بدت غير معتادة على العمل ليلاً وفاقدة
للتركيز، وأنا الغريب المصاب بالأرق
المزمن ولعنة الكتابة، أراقب كل ما حولي كمن يحذر هذه المدينة من نزعة الكاتب،
وفطرة المؤرخ الذي نزل قبل قليل بحقيبته الصغيرة وهذه الموظفة أولى ضحاياه في سردية
طويلة ابتدأت للتو، وكنت اصارع الاجابات
في رأسي على سؤالها البديهي الذي لم تكن
اجابته بالنسبة لي بهذه السهولة، رغم أني كنت قد أتممت قراءة تاريخ هذه المدينة
الممتدة عشوائياً من شرفة في هليوبوليس قبل بضعة أيام.
أجبتها
أني سأقيم في الشميساني، فهو مكان عملي رغم أني لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة المكان
الذي سأذهب اليه عند الخروج من المطار،
ولم أدخل هذه المدينة مسبقا، ولا أعرف إن كانت الشميساني حياً - أم فخا -
ابتسمت لي بصعوبة بالغة خلف ملامح التعب التي تحتل ملامحا، وهو ما جعلني أعتقد
انها أكثر لباقة مما بدت، وكأنهم قد فرضوا عليها حديثاً تغيير ساعات عملها، ليضعها
القدر أمامي، ضحية أولى لنزعة المدون القادم من أقصى البلاد وأوسط البحار.
ما
الذي تخبئه لي هذه المدينة ؟
كان
ليلها من صالة القادمين في المطار يوحي ببزوغ الفجر، وحدي كنت أعرف كيف يولد الليل
من الليل في سماء مدينتي التي أنجبت لكل مقاتل فيها شاعر يصف له كيف يبزغ الفجر من
الليل في المدن الرتيبة، وأنجبت لكل شاعر مقاتل يصف له كيف يبزغ الفجر من ظل
المتاريس ومن فوهات البنادق المعلقة على أشجار البرتقال حين استراح المقاتلون في
حقول المدن الثائرة.
كانت المدينة أمامي تلال من الاحتمالات، وما ردني احتمال أن أموت فيها بنقص حاد في الأمل أو فرط في الحنين، أو احتمال أن تخلع قلبي فتاة سمعتها تعزف الهرمونيكا، ثم تركتني خلفها أحصي احتمالات التواطؤ بين لون الهرمونيكا وطلاء اظافرها الفيروزي.
كان
يمكن أن تكون سرديتي أجمل لو لم يكن في انتظاري أحد، فنحن نحب رهبة الحزن الخفيف على وجوه الاخرين
ووقار وحدتهم، غير أن قارئاً لم أكن أحسب وقتها أن لي في هذه المدينة قارئاً غيره
عرض أن يقلني من المطار حين عرف بقدومي.
كلما
تذكرت هذه الليلة، تذكرت صديقي الذي زارني الشهر
الماضي وسألني منذ متى وأنا في عمان فأجبته منذ أن كان الخامس دواراً، بدت
اجابتي للغريب عن هذه المدينة وكأني هنا منذ قرون، لكن الغريب أنها بدت لي أيضا
كذلك، وأنا الذي يعرف أن الدوار الخامس تحول لاشارة ضوئية منذ ثلاثة أشهر فقط.
ويستمر
السرد ...
باسل