لم تكن غزة التي أعرفها يوماً نبعاً من الدم السائل على الشاشات في حروب البطولة المجانية - وهي للبطولة أهل وفصل - ولم تكن يوماً حشداً غوغائياً من المشردين الثقيلين على الحضارة والعالم، ففي المدن التي تعرف كيف تقاتل، لا يخشي الناس على أنفسهم الفناء، لكنهم يخشون أن تضيع سرديتهم خلف المتاريس.
في غزة، على أطراف تل الهوى قابلت يوماً اياد، بشعره الطويل المنسدل يداعبه الهواء القادم من الغرب حيث يرقد المتوسط حارساً لهذا الحي الذي لم يسأل أحد فيه إن كان اسمه تل الهوى أم تل الهوا - قصرا للهواء - وكان اياد أفضل من عزف الكمان في المدينة، وكان مرهفاً للدرجة التي بعدما أحكمت أنامله كل درجات السلم الموسيقي لم يكن قادراً على التحكم في انفعالات وجهه أثناء العزف ما كان سبباً للتندر أحيانا، وللتأمل أحيانا أخرى، يفك اياد الان طلاسم الهوية في لوكسمبورغ …. وفي مكان ما في القدس قرب جبل الزيتون يطل خالد، الغزي العدمي، الذي هلهل اللاهوت لمعانيه الأبسط، والأخلاق إلى خامتها الأولى، لم يقل يوماً أنه شاعر، بل قال عن نفسه أنه دودة الأرض ولا تسعفني ذاكرتي لتذكر ما قال بعدها عن علاقته بالخارطة لكنه شتم شيئاً أو أحدا بالتأكيد ... أما بهاء الغارق الآن في نظريات علم الأعصاب في لندن، ، أكثر الأدمغة التي أنجبتها غزة فتكاً وموسوعية، ميكافيلي الخطوات بل والقسمات، صوته الرخيم كمن يلقي تعويذة، يرى غدا لا يراه سواه، الأفضل في التكتيك والمخاطرات المحسوبة ... اما مهند - أحسبه في خيمة الآن - كما يليق بفاجومي عاش مدافعاً عما يؤمن به ولم يؤمن يوماً بما آمن به الناس، فجاً كاسمه - مهند شاهر- لم أعرف أصدق منه إيماناً، ولا أسلط منه لساناً، ذلك البوهيمي الغارق في الألم الجمعي حتى نسي نفسه، وذر الرمل في عين الطغاة ولو فقعوا عينه، وسب المارقين عن الوطن ولو قطعوا لسانه.
وفي غزة عرفت مسرحيين وموسيقيين وأدباء جعلوا من المقامات البغدادية لوناً سائدا بألوانهم السردية البديعة، ولم يكن كل ذلك حالة من الظواهر الفردية المنعزلة، بل حالة نخبوية متفردة قل نظيرها في المدن والعواصم.
كل هؤلاء الغير منتمين الخارجين عن التصنيف، أبناء غزة الذين حققوا حرفياً نظرية ادوارد سعيد عن المثقف الذي وصفه (باللامنتمي الذي يؤرق صفو الحياة العامة)، وفي غرفة اياد الصغيرة - التي كانت أوسع من الوطن - قابلت كل هؤلاء الذين أنجبوا في ليلة واحدة أدوات لبناء الحضارة، ما لم ينجبه العالم الغارق في سقوطه الأخلاقي منذ عقود، وحول هؤلاء في تلك المدينة الساحلية الصغيرة ولد المقاتلون، في تلك اللحظة أصبحت المدينة خطراً حقيقياً بالمفهوم الحضاري لمقومات الدولة، لولا تلك الفجوة التي ندفع ثمنها الآن، ذلك الفراغ القيادي النخبوي والعجز عن ربط مكونات ذلك الجيل في ترس القيادة الصدئ لواحد من أكبر الطاقات البشرية في المنطقة، هكذا كانت الحالة الديناميكية للمدينة والتي لن تراها ولن تعرفها، فمن شاشة في أقاصي الأرض يمكنك أن ترى أي مدينة تشاء، أهلها ومعالمها، تاريخها وحاضرها، أن تحجز مسبقاً فندقك ووسيلة نقلك وكل رحلاتك فيها، أما سردية المدن التي لا تعرفها التطبيقات الذكية ولا تظهر بتطبيقات السفر، فهي ضحية تروس الشبكات الاعلامية الضخمة، والأجندات المعقدة، وبروبجندا المستعمر، وخيالات المتربص، بل وسذاجة المتعاطف أحيانا!
باسل