هذه التدوينة كتبت على فترات متباعدة وتمثل هذيان العلاقة المضطربة مع الوطن الذي ظل غائباً عن مدونتي قبل هذا التاريخ، وأقوم بنشرها الان لتوثيقها واستجابة لرغبة من وجدوا فيها هوية ما !
أن تكون غزياً:
أن تختار ملابسك الداخلية بعناية لأنك قد تكون بعد قليل نصف عارٍ في وحدة العناية المركزة، أن تمتنع عن ارتداء ملابس البيت كي تخرج من تحت الركام بصورة لائقة، أن تعلق أمك ملابس الصلاة سهلة الارتداء عند مدخل البيت كي لا تبحث عنها حين لا يكون الوقت عنصراً محايداً في اغتيالنا، أن تحرق ذكريات حبك الأول، أن تحرق مذكرات مراهقتك، ونصوص أخرى تعشقها لكنك تخشى أن يطلع عليها أحد حين يعبث الأحياء بأغراض الميتين، أن تفكر بأغراضك الي ستحملها معك، هل فعلا سأجد الوقت لحملها أم علي التخلص منها؟ أو أغراضك التي لا تأمنها مع أحد بعدك، أن تفكر باحتمالات الموت: هل سيأخذني وحدي ويترك عائلتي؟ هل سيأخذهم جميعا ويتركني؟ هل سيأخذ صغارنا ويترك كبارنا؟ هل يأخذ كبارنا ويترك صغارنا بلا عائل؟ هل يأخذ نساءنا أم رجالنا؟ هل يأخذ أطرافنا؟ هل يشوهنا ويحرقنا ويتركنا؟ هل سأمضي أياما تحت الركام؟ هل سأحشر بين عمودين؟
أن تختار ملابسك الداخلية بعناية لأنك قد تكون بعد قليل نصف عارٍ في وحدة العناية المركزة، أن تمتنع عن ارتداء ملابس البيت كي تخرج من تحت الركام بصورة لائقة، أن تعلق أمك ملابس الصلاة سهلة الارتداء عند مدخل البيت كي لا تبحث عنها حين لا يكون الوقت عنصراً محايداً في اغتيالنا، أن تحرق ذكريات حبك الأول، أن تحرق مذكرات مراهقتك، ونصوص أخرى تعشقها لكنك تخشى أن يطلع عليها أحد حين يعبث الأحياء بأغراض الميتين، أن تفكر بأغراضك الي ستحملها معك، هل فعلا سأجد الوقت لحملها أم علي التخلص منها؟ أو أغراضك التي لا تأمنها مع أحد بعدك، أن تفكر باحتمالات الموت: هل سيأخذني وحدي ويترك عائلتي؟ هل سيأخذهم جميعا ويتركني؟ هل سيأخذ صغارنا ويترك كبارنا؟ هل يأخذ كبارنا ويترك صغارنا بلا عائل؟ هل يأخذ نساءنا أم رجالنا؟ هل يأخذ أطرافنا؟ هل يشوهنا ويحرقنا ويتركنا؟ هل سأمضي أياما تحت الركام؟ هل سأحشر بين عمودين؟
في الحرب، هذه على الأقل، تم قصف مستشفيات، سيارات مدنية، سيارات اسعاف،
جمعيات لذوي الاحتياجات الخاصة، مقابر، مساجد، ٢٢ عائلة أبديت بالكامل دون
تحذير، مئات البيوت أعطيت دقائق معدودة للاخلاء، أطفال على البحر، شقق في
ابراج، أراضي زراعية، قصف عشوائي بشكل واضح، اتصالات تحمل رسالة بالاخلاء
لأماكن ويتم قصف هذه الأماكن، هذا النوع من الحروب يتم اعدادها بشكل دقيق
لترويع الناس، لايصال رسالة أنك غير آمن بأي طريقة، وهذه هي الطريقة الأنجح
لتوليد الضغط الشعبي لقبول أي اتفاقيات، لكن الحمقى الذين أعدوا هذه الخطة
الحمقاء لتركيع غزة، لم يفكروا أن أهل غزة لا يعرفون الكثير عن الحياة كي
يتشبثوا بها: هل رافقت صديقتك لتشجيعها في مسابقة رقص الباليه؟ هل شربت
القهوة في الشانزلزيه؟ هل حضرت حفلا في دار الأوبرا في سيدني؟ هل تعرف أين
تقع مدينة تورنتو، هل شاهدتها ليلا؟ هل زرت اللوفر؟ اه منك يا روما ...
يحتاج أكثر أهل غزة ترفاً من يترجم له الكلمات السابقة.
لو أردتُ
تركيع غزة لقاتلتهم بالحياة فهم لا يجيدون التعامل معها كما يحترفون
التعامل مع الحرب، كيف تقاتلهم وهم لا يرتبكون أمام الموت قدر ارتباكهم عند
دخول مطعم لأول مرة؟ كيف تقاتلهم بالموت وهم يشاكسون الموت في شوارع
المخيم، ويخرجون ألسنتهم للعالم الظالم: لا زلنا على قيد ما نعرفه عن
الحياة.
تموز 2014
أنا من بلاد الطفل الذي قتلوا أمه في الحرب ومنحوه تعويضاً عنها حقيبةً مدرسيةً زرقاء عليها شعار اليونيسيف.
أنا من البلاد المسلوبة التي أخذوها ومنحوني تعويضاً عنها مستوصفاً طبياً يوزع الأكامول وحقن البنسلين طويل المدى، وانا ابن المدى كقضيتي لي من الله ما لكم، فاللهُ الذي بنى روما بنى شوارع المخيم، وسماء عواصمكم ليست أعلى من أسقف الأسبست فوق بيوت المخيم.
أنا من البلاد التي جربت كل شيء ولم تتحرر، وجربوا فيها كل شيء ولم تمت، فارموها من قمة الأولمب كي يصير لها مكاناً في الأسطورة، أو زوِّجوها لعجوز يضربها كل ليلة كي يكون لنا مكاناً في السينما.
أنا من بلاد لم يتنبأ لها نبي بالسنين العجاف، ولو تنبأ لها لما وجدت ما تدخره أصلا، لكن أهلي يعيشون سبعة أعوام على خبر سنبلة نبتت بطرف الحقل ويطعمون ابناءهم الأمل وأجسادهم العمل، وفي كل مرة تموت السنبلة، وفي كل مرة يعيشون !!
كانون ثاني 2015
وتركتني في بلاد ليس لي فيها سواك، وقبضوا عليّ متلبساً أمارس الأمل، وجاء
القضاة يركضون من طرف الابجدية وعلقوا لنا المشانق: فيزيائي يتحدث عن
الاسكاتولوجيا، وفقيه قال أن الأرض تدور ... وصفق لموتنا دهماء العامة.
آذار 2015
في ليلة الثاني عشر من آب من العام الماضي، الليلة التي شهدت الهدنة
الثانية لمدة ٧٢ ساعة في الحرب التي اختارت غزة فيها أن تعانق الموت بشبق
مازوخي، واختار صديقي اياد رشيد أن يطلب مني بعد أن قررت استغلال الهدنة
لزيارته أن أحضر له معي عبوة ماء بارد للشرب، لأن انقطاع التيار الكهربائي
منذ أكثر من شهر في صيف المدينة التي لا تعد قتلاها ولا تحفل بالمواسم جعل
الماء البارد أمنية مترفة في موسم كانت أكبر أمانينا أن نحيا قليلاً بعد،
وأن يعود جنودنا لتقبيل زوجاتهم سالمين.
سهرنا كالمعتاد على سطح
المنزل تحت قمر أبله وخمس طائرات استطلاع تدور بطنينها بشكل دائري فوق
رؤوسنا رغم الهدنة، ولكن الحوار لم يبدأ كالمعتاد، فلم يخبرني مثلاً أنه
أعاد ضبط كمانه من النظام الشرقي ( صول ري صول ري) الى الغربي (صول ري لا
مي) ، ولم أخبره أنا أن ٨٥ شخص بالعالم يمتلكون ما يمتلكه ٣.٥ مليار شخص
وأن الوعي الابيستميولوجي (المعرفي) للنظرية الاشتراكية يفرض اعادة جذرية
لصياغتها، وأن ما يميز الدين عن أي أيدولوجيا أخرى هو أن الدين في صلبه
وجوهره يؤكد على ثباته وأن أي محاولة لتجديده كفرٌ به، وأن كونه إلهياً
يجعله صالح اطلاقا لكل مكان وزمان بغض النظر عن وضوح اتصال بعض تشريعاته
بعصر نشأته بشكل واضح، ولم أحدثه كالمعتاد عن قصة ميثولوجية لا تخلو من
الفكاهة والحساسية المفرطة تجاه ما اعتقدنا انه مقدس.
كل ما تحدثنا به في تلك الليلة هو احتمالات جامحة لما بعد الموت، وسؤاله
الغريب لي: بماذا سأفكر لو انطفأ القمر فجأة ونحن نتأمله، بعد ثواني معدودة
من التفكير بسؤاله انفجر كلانا ضاحكاً كأننا وقفنا مجددا على قدمينا
لنستعطف مدينتنا أن تكف عن هذا الشبق المازوخي بالموت ولو خجلاً من عيون
أطفالها الذين يشاهدونها، لكن غزة لم تستجب لكل ذلك، ثم خانها الموت وتركها
دون أن تفنى تماما، تركها حبلى بالجوع والسغب، بالوجع والألم، بجوازات
السفر، ولم يغسل البحر خطيئتها ... بعد !
نيسان 2015
سآخذ حبيبتي وأرحل عن هذه البلاد قبل أن يفرضوا ضريبة على الشامة التي
بكتفها أو يرسلوا من يبحث عن شامة أخرى في جسدها، سأرحل إلى بلاد يبدأ
تقويمها بتاريخ عودة طائر أو ميلاد أغنية، لا بلاد كلما سألتها عن حقي
لقنتني درساً في التربية الوطنية وحب القائد الذي منّ علينا برد الغزاة
وكشف المؤامرة.
فيا أرضاً تفيض علينا بالشهداء وكلما سألناها أن
تنجب قائداً صارت عاقر، هذا ملحك على وجهي لا تغسله المنافي، وهذه آثار
سوطك على ظهري لا تمحوها المراحل، فلا تنسيني إن عانقتني بلاد لا تأبه
بالجغرافيا ولا عَلَم لها تجلدني إن نسيت ترتيب ألوانه، بل تجلد نفسها
وقائدها إن نام أحدنا جائعاً.
نيسان 2015
باســــــل