ارتكبتُ أكبَر إثمٍ اقترفه إنسَان: لم أكُن سعيداً.
خورخي لويس بورخيس
الليل يصرعني في سباق محموم نحو البقاء، أتحسس نفسي فلا أجدني، من أنا في الثلث الأخير من هذا الليل المفترس! فيجيبني بورخيس مرة أخرى: (لست متأكداً هل أنا موجود أم لا، أنا كل الكتاب الذين قرأت لهم، وكل الناس الذين قابلت وكل النساء اللواتي أحببت وكل المدن التي زرت).
وأنا لم أعد أخشى على نفسي النسيان وذاكرة الناس، فقد نسي التاريخ فاسيلي آرخيبوڤ وتذكر هتلر والاسكندر وكل الفاتحين القتلة وقلدهم الأوسمة والبطولة، وتذكر ستالين وماو ونسي خورتشوف الذي كان أكثر حنكة وذكاء بل وفعالية حتى بالمقاييس الميكافيلية للحكم في زمن تردي الاشتراكية واهتزاز الثقة وديناميكية المرحلة، وتذكر قيس بن الملوح صاحب ليلى ونسي الصمة القشيري صاحب ريا وهو القائل:
بَكَت عَينُك اليُسرى فَلَمّا زَجَرتَها
عَنِ الجَهلِ بَعدَ الحِلمِ أَسبَلَتا مَعا
فَإنّي وَجَدتُ اللَومَ لايُذهِبُ الهَوى
وَلَكِن وَجَدتُ اليَأس أَجدى وَأَنفَعا
في بيتين فقط، خلد القشيري في عينيته الفريدة اكثر اللحظات الانسانية عمقاً وهشاشة، انه ما اسميه باليأس المقدس، وهو اليأس المتكون بعد تلك الدرجة الدقيقة من القتال والمحاولة، هو يأس لا يشبه يأس الضعفاء والمستسلمين، هو يأس الشجعان المتعبين من القتال والسقوط المستمر، هو يأس الأذكياء الذين تحروا كل سبل الأمل فخذلتهم، يأس من لو اطلعوا على الغيب لصدقهم في يئسهم، بهذا العمق بدا التاريخ ظالماً مرة أخرى حين نسي القشيري وريا وخلد قيس وليلى في السرديات الشعبية، تماما كما نسي آرخيبوف وخورتشوف، كم كان التاريخ مجرماً أمام بعدنا الانساني !
ثم كيف كان لمثلي أن ينجو في عالم من العابدين والعصاة، الصادقين والمخادعين، الخير والشر، وكنت مارقاً عن التصنيف والانتماءات الساذجة، متطرفاً في كل شيء حد الغرق، لم أفهم نفسي ليفهمني الناس، وكان الزمان مراً، والهوية الناقصة عار، والمارقون عن الجماعة شراذم، والكل في صراع محتدم بحثاً عن التوصيف واستكمال الهوية، ليكونوا مع الاخيار!
باسل