منتصف الليل، تلتقي عقارب الساعة الثلاث وتتراكم فوق بعضها البعض مشيرة لأعلى، أستيقظ، ألعن غدتي الصنوبرية وتلعنني، أزعجها باستيقاظي حين تنام، ونومي حين تستيقظ، تغضب مني، تشكوني لغدتي الكظرية التي تتآمرعليّ أيضاً وتمسك عني كوتيزولها في هذه الساعات، ولا أبالي بها، أغسل وجهي بماء بارد، لا أجففه، أمعن في الصحو، والتمرد على غددي الصماء،كأني أتفنن في نحت مصطلح هش بين المازوخية والسادية ، تجتاحــني رغـبة جامـحة للكتابة، فتيأس غدتي الصنـوبرية من اقناعـي بالنوم، تحاورني عبر قشرتي الدماغـية، تستعـطفني، تغـريني، فأتـعالى، وأمعـن في الصـحو أكثـر، وأبرر طيـشي وعدائي لها بنزق: لا يروقني مكانك المراوغ rostro-dorsal to the superior colliculi ،ونسيــت: كم نسيــت ! كيف نسيــت! أني سليل البشر المتغطرسين الذين كذبوا -حتى صدقوا أنفسهم- على سلم النشوء والتطور وتناسوا مكانـهم الحقيقي الواقع: caudo-dorsal to the superior civilizations ، يختل توازني لهذه الحقيقة المكبوتة، تستنفر مراكزي الدماغية العليا، تفعّل دفاعاتها اللاواعية، تمارس الــDenial ، أستعيد توازني وأنجو مرة أخرى كما نجا أجدادي منتصبو القامة، و سيكذبون عليك ويقولون أنك الأفضل لأنك بقيت، لأنك نجوت ..
ألا تعساً لك كيف نجوت .!؟
لكن جيران غدتي الصنوبرية لا يمكن اللعب معهم أو التلاعب بهم، هؤلاء القوم جديون جداً وقادرون على نسف كل دفاعاتك، وإغراقك في اكتتاب يودي بك للانتحار، هؤلاء قادرون على نسف كبريائك واعتدادك بالذات، قادرون على شل حركتك أو التحكم بها كما يحلو لهم، أنا بحاجة للاتزان، أحتاج للتركيز، علي أن أهادن، أو أصالح، الاستطالة الكمية التي أمارسها على الزمن يجب أن يرافقها تحسن كيفي لا تقلبات مزاجية غير متوقعة .
يبدو أن أحدهم قد قرر الانتقام لغدتي الصنوبرية، أشعر به يعربد في دهاليز ذاكرتي ينشر نواقله العصبية، يعيث بذاكرتي فساداً، يستفزها، يؤرق نومها: الطفولة/ الإجابات الأولى على الأسئلة الأولى عن التكوين الأول/ جرس المدرسة/ الزي المدرسي/ الدين/ القرآن/ الجنة/الفقه المنهجي للشافعي/تلاوة حفص عن عاصم/تلاوة ورش/صديقي الذي يدق أجراس المنازل كلها في طريق الإياب من مركز تحفيظ القرآن/إعراب شرب القط اللبن/الانتفاضة/الشهداء/مقال في المنهج-ديكارت/تشاؤم شوبنهور/ ديالكتيك هيغل/مادية فورباخ/ الثورة الفرنسية/ فصل الهندسة الفراغية بكتاب الرياضيات/عدميات نيتشه/ تكامل قا(س)/قيمة س في: س-1=س-1/الكهرومغناطيسية/ مدينة الفارابي، كفى كفى ..أحاول كبح جماح الذاكرة تهزمني وتواصل: تاريخ الطبري/مختصر تفسير ابن كثير/تفسير ابن كثير/الميثولوجيا/نظرية المعرفة/معادلة لابلاس/ قصور الميكانيكا/ حيود الأشعة السينية/معادلة شرودينجر/ القرآن للمرة الثانية/الثورة البلشفية/الاشتراكية/البروليتاريا/اليسار/كيف سقينا الفولاذ ص100/ ولاية ميان/ بحيرة السعادة .. ماذا .. ماذا قلت ؟؟! بحيرة السعادة ...ما هذه؟ .. تعساً لي، من قال أن اسمها السعادة ؟!
حين كنت ألتقط صورة تذكارية قبل أعوام أمام البحيرة التي كانت تبعد عدة أمتار عن محل إقامتي في أقصى الشرق الأمريكي بولاية maine، كنت اعرف أني سأكتب على ظهر هذه الصورة اسمها "بحيرة السعادة"، وهكذا فعلت وتأملت هذه الصورة طوال سنين، لكن في هذه السنين العجاف، والقحط العاطفي، وكتاجر مفلس يدقق في دفاتره القديمة، أدرك الآن أني أخطأت طوال هذه الأعوام في ترجمة اسم هذه البحيرة، ليس ضعفاً في لغتي لكني كنت أكثر سعادة في الحقيقة من التدقيق في الاشتقاق الحرفي لاسمها، ألاحظ الآن للمرة الأولى أن الترجمة الحرفية لاسمها هو "مسببة السعادة" وليس السعادة !
أعتذر للذاكرة، وأعزي النفس ولا شماتة .
أعتذر للذاكرة، وأعزي النفس ولا شماتة .
إن الفرق بين المعرفة المجردة والتجربة كالفرق بين إجابتي على سؤال أيهما أصعب الغربة والوحدة أم الوطن والوحدة، يبدو لي البيت موحشاً منذ أيام بعد سفر والديّ إلى صحراء العرب التي صارت فجأة جنة الله في أرضه –الإمارات العربية المتحدة- أعتقد أني الكاميرات الرقمية ستجنب أمي الوقوع في مثل خطأي بكتابة اسم مخالف لاسم الصورة على ظهرها، وهي تلتقط الآن –ربما- صورة تذكارية أمام فندق أتلانتس، فيما سيحمي أبي من هذا الخطأ كرهه للتصوير، أو ربما انشغال في رصد قمة أعلى برج في العالم –برج خليفة-.
تتسلل ريح الصبا بخفة من نافذتي المشرعة، تلفح وجهي الدافئ، وتخرج من باب الغرفة الموارب، فالطبيعة مثلي أيضاً لها ساعتها الفزيوبيولوجية، وريح الصبا تفرزها الغدة الشرقية للطبيعة، مع إفراز غدتي الكظرية للكورتيزول، أتدارك الوقت، أختلس النظر إلى الساعة فأجد عقاربها قد تبعثرت، بل تنافرت لدرجة التضاد، واحد لأعلى، وآخر –أقصر منه- لأسفل، وثالث يدور كالمجنون لا يبالي بأحد، فتستجيب غددي الصماء لهذه الفوضى الزمنية، ينخفض مستوى الميلاتونين، يعلو الكورتيزول، أتجاوز كبريائي الذكوري اللعين، وأعتذر لغدتي الصنوبرية وأمتثل لأمرها هذه المرة وأبقى مستيقظاً، وأمعن في الصحو !!!!