لا تدافع عن بطاقة هويتك
فأنت في الحقيقة لم تختر ولو شيئا واحداً مما كُتب فيها، ولا تدافع عن مصادفة
مفرطة في الضعف أنك كنت ستختار نفس الخيارات لو خيروك الآن، ومت إن شئت لكن لا
تدافع عن قدسية موتك من أجل هذه المصادفات، ولا تدافع عن رجالٍ لأن رجالاً دافع عنهم
التاريخ دافعوا عنهم، فالتاريخ أكذب منا جميعا، ولا تدافع عن تاريخ ضد تاريخ فكل
التاريخ سواء، ولا تدافع عن مرحلة لم تراها عين المؤرخ المحايد وتواطأ على روايتها
رجال اختلفت مذاهب من بعدهم، ولا تدافع عن اقتباسات من كلام المستشرق فقد أخذنا من
السياق ما نريد، ولا تدافع عن الفرسان الفاتحين فهم لم يدافعوا عن حقك في الحياة
إلا بشروطهم.
هل ساورك
الشك بالمعنى أم عاب الفكرة اختصارها بالمجاز؟ هل كبر المجاز عنا أم صرنا أصغر منه؟
فهذه التدوينة تنتهي
هنا، ولمن لا ترضيه هذه النهاية أن يكمل القراءة
........
لا تدافع عن هويتك:
الاسم، الجنس، تاريخ
الميلاد، مكان الولادة، الديانة، الجنسية... هذه هي البيانات الموجودة في بطاقة
هويتك، فأي هذه البيانات اخترت؟! حتى أدق ما في شخصياتنا وأكثر ما فيها حساسية
اختاروه لنا، وكل ذلك كُتب ولما يخيرونا ولو في شيء واحد مما ورد فيها، ولأجل ما
اختاروه لنا يمكن أن نٓقتل أو نُقتل دون أن نفكر لمرة واحدة أننا ندافع عن خيارات
من لم يدافعوا عن حقنا في الاختيار.
لا تدافع عن المصادفة:
ربما لو خيروك الآن أن
تعيد كتابة هويتك لغيرت اسمك إلى اسم أكثر عصرية، ولو كنت فتاة لغيرت اسمك إلى
لانا أو ليان، وربما قدمت تاريخ ميلادك أو أخرته عاما أو عامين ليناسب عمر زميلتك
التي أحببتها في عامك الجامعي الأول لكنها تكبرك ببضع شهور لا ترضاها شرقيتك، لكنك
حتماً ستعيد التأكيد على البيانات الحساسة كالديانة والوطنية التي ستتمني الموت
دفاعا عنها، لكن المغالطة الكبيرة في تخييرك واختبارك الآن أو تخيلك لهذا التخيير
هو انه تخيير مثقل برواسب الطفولة والمجتمع عبر سنين عشتها هنا وليس تجربة نظرية
في ظروف مثالية مجردة كما كان سيحدث لو خيرناك دون هذه الرواسب المتراكمة عبر
السنين، ثم إن كون هذه البيانات التي اختاروها لنا تطابق ما سنختاره في هذه
التجربة غير الموضوعية بحد ذاته صدفة مريبة جدا بالنظر لكون عدد الخيارات
الأخرى كبير جدا وبالنظر لكون ٩٩.٩٩٪ ممن سيعاد تخييرهم سيختارون نفس الديانة على
اختلافها وهذا ما يؤكد أن رواسب التربية والمجتمع هي من جعلتنا نعيد
الاختيار وليس مصداقية هذا الاختيار، فلا تحاول الآن الدفاع عن هويتك التي لم
يخيروك فيها لأنك ستعيد اختيارها بتجربة افتراضية تحيد عن كل المعايير العلمية
للافتراض والتجربة.
لا تدافع عن قدسية الموت:
لكل إنسان الحق في الموت
دفاعا عن دينه وأرضه ووطنه وأهله وحرية اعتقاده ضد من اعتدى عليه والقدسية تأتي من
كونه ظُلم وليست قدسية من خصوصية الوطن أو الدين الذي يدافع عنه، ولا شيء مقدس في
الموت، فهو خيار سهل سيما لأولئك الذين بلغوا اليقين في تفاصيل حياتهم بعد الموت.
لا تدافع عن رجال دافع
عنهم التاريخ:
ومن هنا أبدأ الصدام
الأول بعبدة التاريخ على اختلاف أديانهم، من هنا أبدأ الدعوة الجهرية إلى إعادة
التاريخ لمكانته التي يستحق فهو لا يستحق من الاهتمام أكثر مما تستحقه قصة ليلى
والذئب، وليس لأحد أن يسمح للتاريخ أن يملي عليه تقديساً أو تنكيساً لشخصية أو
حضارة أو معتقد، وليس له أن يعتقد أن الله جعل من دينه تاريخاً يختلف به الرواة
والمؤرخون أو راهن على رجال أن يحفظوه، أو أراد من رجال أن يصدقوا رجال فيما
يعرفوه عنه، ولعل كل ما يمكن أن يقال بهذا السياق سيظل بلا معنى لمن يعبدون
التاريخ وذلك لأنهم يعرفون تاريخا واحداً ومن وحدانية الرواية انتزع هذا التاريخ قدسيته
وتجذره في عقول عامة الناس ممن تلقوا رواية تاريخية واحدة فصارت لهم دينا لا يقبل
التشكيك، ومنهم من ارتد عن دين التاريخ قليلا فكذب هذه الرواية أو تلك لكنه لم
يحتمل بعد حقيقة أن كل التاريخ سواء، وأن استيعاب هذه الحقيقة لن يكون الا للباحث
المحقق الذي لم ينافق في اطلاعه وبحثه رواية يتبناها مسبقا أو قدسية سلم بها
لشخصية أو نص، وأكثر ما يحزنني هنا هو مراعاتي لطول التدوينة التي لن تسمح لي بنقل
ما يكفي من الأمثلة التي تحتاج لمجلدات ضخمة وليس لتدوينة سريعة فهي تجربة طويلة
تعاش ولا تلقن، لكني سأختار أطرفها.
من بين آلاف النصوص
التاريخية التي يمكن من خلالها تشويه أي شخصية تاريخية مهما بلغت قدسيتها عند
البعض، وخجلاً أمام مشاعر البعض من الصدمة، راقتني حكاية الشغف بالأمازيغيات
البربريات سليلات جبال الأطلسي عند أشهر خلفاء بني أمية والتي لاحظتها في نصين
متفرقين من كتاب تاريخ الخلفاء لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
قال ابن أبي
شيبة في المنصف : حدثنا أبو سفيان الحميري حدثنا خالد بن محمد القرشي قال : قال
عبد الملك بن مروان : من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها بربرية و من أراد أن
يتخذها للولد فليتخذها فارسية و من أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية
أما هشام ابن المذكور
أعلاه وخليفته بالحكم فقد كتب الى عامله على أفريقيا: أما بعد، فإن أمير
المؤمنين لما رأى ما كان يبعث به موسى بن نصير إلى أبيه عبد الملك بن مروان رحمه
الله، أراد مثله منك، وعندك من الجواري البربريات المالئات للأعين الآخذات للقلوب،
ما هو معوز لنا بالشام وما والاه. فتلطف في الانتقاء، وتوخ أنيق الجمال، عظم
الأكفال، وسعة الصدور، ولين الأجساد، ورقة الأنامل، وسبوطة العصب، وجدالة الأسؤق،
وجثول الفروع، ونجالة الأعين، وسهولة الخدود، وصغر الأفواه، وحسن الثغور، وشطاط
الأجسام، واعتدال القوام، ورخامة الكلام)!
ولمن لا يعرف السيوطي
فهو من يُكتب على غلاف كتابه خاتمة المحققين وأوحد المجتهدين حافظ العصر ووحيد
الدهر الإمام جلال الدين -واسمه عبد الرحمن - السيوطي الشافعي وهو
مؤلف أول وأشهر كتاب في علوم القرآن (الإتقان في علوم القرآن) والذي يرد في مقدمته
أيضا أنه الشيخ الإمام العلامة الحبر البحر الفهامة المحقق المدقق الحجة الحافظ
المجتهد وارث علوم سيد المرسلين، ولعلي أستغل الفرصة هنا للدعوة لمطالعة كتابه
الإتقان في علوم القرآن الذي ربما سمع عنه عبدة التاريخ لكنهم لم يقرأوه يوما
ليعرفوا أن التاريخ ليس أوحدا ولم يعطِ قدسية لنص أو شخصية، وأنه رغم الوصول
السريع للمعلومات فان الجيل لا يزال يعاني من ضعف التحقيق والبحث والاطلاع وتبنى
أسذج الروايات التاريخية في كتب الطفولة ومضى يقاتل دفاعا عنها.
وفي الكتاب نفسه - تاريخ
الخلفاء - تجد عشرات النصوص التي تدلل على تقوى وزهد وحكمة ومناقب كل من الخليفتين
والتي يعرفها عبدة التاريخ الذين لم يقرؤوه فعبد الملك هو أعظم خلفاء بني أمية
وكان يلقب بأبي الملوك، وأعود للتأكيد أني في اختياري لهذه المثال قمت بمراعاة
شيئين فقط هما طرافة القصة وعدم التعدي على ما هو أقدس من ذلك فأحسب القارئ يمتلك
من الذكاء ما يجعله ينطلق للبحث عن تاريخ غير التاريخ الذي يعرفه.
لا تدافع عن تاريخ ضد
تاريخ:
عطفا على ما سبق على مستوى الأحداث لا الأشخاص، فلا تكاد تجد خبرا تاريخيا واحدا سيما في التاريخ المقدس مما يمكن الاتفاق عليه، ومن المثير للسخرية أن يحاول شخص أن يرد على شبهة تاريخية تزعج إيمانه بنص تاريخي آخر وكأن لتاريخ مصداقية على تاريخ، ومن المثير للقرف أن يحاول الكذب على الأركيولوجيا لإيجاد دلائل وهمية على الرواية التاريخية التي يتبناها، هذه الروايات التاريخية المختلفة فرقت جميع الأديان إلى ملل ونحل وطوائف تتناحر فيما بينها بكل سخافة لأنها تعتقد أن لرواية تاريخية مصداقية فوق رواية أخرى، وامتدادا لما سبق اختلفنا في قدسية أشخاص عاشوا قبل مئات السنين، وأجد نفسي مرة أخرى محاصرا بملايين الأمثلة على تباين نصوص تاريخية حد التضاد في أحداث ما، أو لعلي أشير لكون الانقسام الإسلامي السني الشيعي أكبر دليل على هذه السخافة في هذه المعركة التي تدور رحاها في كتب التاريخ والسير في روايات متناقضة تماما صارت في عصرنا تسمى شبهات والرد على الشبهات، لكن الحقيقة التي أعرفها أن التاريخ بذاته شبهة ولا يدافع عن شيء فيه إلى مخبول، وحتى علم كالأركيولوجيا الذي يستخدمه عبدة التاريخ كدليل ليس علما قطعيا بل ويمكن فهمه وتفسيره وفق ما نشاء، وقد أسجل احترامي لما يسمى علم الجرح والتعديل كفكرة ولكني بالطبع أرفض إعطاءه لفظة علم كونه لا يشبهها من قريب ولا بعيد فهو جزء من تاريخ مشبوه أعطى بعض النصوص القوة بقليل من العنعنة وأسماء لا يعرفها القارئ ولا يعرف من يدعي أنه يقوم بالحكم على هذه العنعنة الطويلة، وكونها أيضا نشاطا بشريا بامتياز لا يقاس في أنبوبة اختبار وبكل ما يعنيه ذلك من امكانية الخطأ والخلط والنسيان غير المتعمد أو التزوير المتعمد واذا كنت تجد صعوبة في فهم كيفية حدوث ذلك عبر كل هذه القرون فدعني أخبرك أني كتبت نصاً قبل أيام وبعد ساعات فقط أعادت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي نشر ما كتبت على صفحتها وقد تغير اسمي من باسل شمالة إلى باسم شبالة، وهذا التحريف بالطبع لم يحدث بقصد من أحد لكنه بطريقة ما حدث .
وتجنبا
لاستخدام أمثلة حساسة تطال أقدس الرموز والشخصيات الإسلامية في فترة الفتن، وتجنبا
لذكر الروايات الكثيرة المتناقضة بطريقة مخزية والتي يمكن إيجادها في كتب ثقيلة
الاسم مسجعة بالعنعنة والفصاحة العربية عن أشخاص بقصور فهمنا للتاريخ أو بتقديسنا
لبعض رواياته عن أخرى منحناهم قدسية فوق بشريتنا، أجد نفسي مرة أخرى مضطر لاستعراض
سريع لبعض هذه الروايات دون صبغة الكتابة التاريخية التي يكثر فيها الجدل، فلا
يعرف أحد هل كان سبب خروج عائشة على عثمان أنه منع عنها وعن حفصة بنت عمر بعض
المال الذي كان يمنح لهما بشكل دوري في عهد عمر وكان له في ذلك حجة ودليل على عدم
استحقاقها للمال أم انها خرجت عنه فقط لما رأته عليه من مخالفات سياسية ومحاباة،
وهل كفرته حقا ودعت لقتله مراراً قائلة اقتلوا نعثلا فقد كفر؟ أم أنها حزنت لمقتله
وطالبت بدمه؟ أم
انها دعت لقتله ثم ندمت بعد ذلك في نصوص يسهل التوصل أن ملفقها أراد توفيق
التناقض، وقد يحلو لطرف أن يجد لنفسه نصا عن النبي يشير فيه الى بيت عائشة قائلا
ها هنا الفتنة ويكررها ثلاثا ويرد الطرف الآخر بحديث لنفس النبي يقول فيه فضل
عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ثم يختصمان في العنعنة والرجال، ثم
يختصمان في فهم المعنى.
الأسخف من هذا الخلاف هو
الكذب على الأركيولوجيا وتزييف النصوص كما حدث في محاولة البعض في تأكيد روايتهم
عن فرعون موسى التوراتي وغرقه أو عن شخصية وزيره هامان، فأخذوا يذكرون أن الآثار
المصرية أثبتت وجود هامان وغرق فرعون وهو ما لم يحدث في حد ما نعرفه من علماء
الآثار المعتبرين.
والسؤال هنا: ما الذي
سنجنيه من إثبات شكل علاقة عثمان بعائشة أو بنفي أو إثبات أي حقائق تاريخية
اختلفنا فيها حد القتال؟ وهل يعقل أن نختلف بعلاقة شخصين قبل ١٤ قرنا وشركة أبل
ستطلق بعد أيام نسختها السادسة من رائعتها الفريدة آيفون وستطلق النسخة الثامنة من
نظام IOS بعض أن قامت
بعرضه للمطورين؟ -أو لعلها فعلت ذلك وانا منشغل بكتابة هذه التدوينة- وهل يعقل أن
نختلف في فرعون موسى وشركة جوجل على وشك إطلاق النسخة النهائية من نظارتها الذكية؟
هل يعقل أن تفرز الأمة بسبب هذا الجدل التاريخي من يقطع الأعناق في الوقت الذي
يحاول فيه أطباء ايطاليون اعادة وصلها ومحاولة زراعة دماغ بشري؟
وحتى على مستوى التشريع
فلا وجود لما روجه علماء متأخرون عن معلومات بالضرورة واجماع وقياس وكل المصطلحات
المتأخرة التي جاءت بها أفكار بشرية لعلماء بفترات بعيدة عن مهد الرسالة، حتى أنك
لا تكاد تجد جزما بأشياء اجتماعية ظاهرة كشكل الحجاب الذي نختلف في تفسير أدلته
النصية وكأنه كان كثيرا أن نعرف شيئا كهذا بسهولة ووضوح كونه تحول لقضية مركزية في
عصرنا هذا، وأنا هنا فقط أؤكد على وجود الخلاف المستند لنصوص تتساوى في قوتها بين
تفسيرات تنفي وجود حجاب بالشكل الذي نعرفه وبين ما تدين به أغلب الأمة من حديثي
الطبري وابي داوود باستثناء الوجه والكفين وهما حديثان ضعيفا الأسانيد - كما يقول العلماء-
والآية القرآنية حمالة للمعاني ونصوص أخرى في حجية النقاب الذي ظهرت مؤخرا فتاوى
دينية بكونه ليس من الدين مع أن أحاديث تغطية الجسد عدا العين اليسرى أو حتى طرف
العين اليسرى بالنسبة لشخص مثلي لا تزيد أو تقل قوة عمن قال باللاحجاب ... هل تصدق
نصاً من زمن لم نجزم بعد بما كانت ترتديه النساء فيه؟!
أنا لا أصدق روايتك
التاريخية ولا أكذبها، وأنا أعرف بعد هذه السنين أنه لا وجود لأي نص مقدس، وأن
الله لا يسكن في كتب التاريخ والأهم أني لا أجد لذلك أهمية رغم كوني أكثر من تورط
في البحث عن كل الروايات التاريخية المتضاربة في كل الأديان محاولا إيجاد وسيلة
للبحث عن الحقيقة التاريخية إلي وجدت بالنهاية أنها لا تعنيني، وأندم على مئات
الكتب التاريخية القذرة التي قرأتها، إن الاختلاف على مذاق الكوكا كولا أو البيبسي
أكثر أهمية وواقعية ومعنى من كل الكتب التاريخية التي قرأتها بكل ما ورد فيها من
اختلافات.
إن كل ما سبق سيظل
كلاماً بلا معنى بالنسبة لمن بلغوا درجة اليقين في كون نصوصه التاريخية حقيقية
وبطريقة ما حفظت عبر هذه السنين، ولمن لم يخض لمرة واحدة مرارة البحث الطويل عن
مصداقية التاريخ بشكل موضوعي محايد يرى من خلاله أن طرفي الصراع يستخدمون نفس
الأسلوب وأن قلبه لا عقله يميل للرواية الي عرفها أولا أو أدمنها في طفولته، وحين
يتخلص من هذا الميل اللاعقلاني ربما يفهم ما سبق.
لا تدافع عن اقتباسات من كلام المستشرق:
يعتبر المستشرق الفرنسي
جوستاف لوبون وكتابه حضارة العرب أشهر ما يتشدق به من لم يتوقفوا يوما عن تلقين
هذا الجيل ثقافة ضيقة تؤسس لفكر انغلاقي تحصد الأمة ثماره هذه الأيام، ولعل مقولته
"لم تعرف الأمم فاتحاً أكثر تسامحاً من العرب ولا ديناً سمحا مثل دينهم"
أكثر مقولات المستشرقين رواجاً في عقول هذه الأمة ولعلي أجزم أننا لا نعرف اسم
مستشرق آخر غيره، ولكن المشكلة ستكون بأننا لا نعرف له قولا آخر غير هذه القول،
وما قالوه "سادتنا وكبراؤنا" عن كونه خيرمن أنصف حضارة العرب، وانطلاقا
من كون هذه التدوينة تهاجم الطريقة التي تم بها صناعة هذا الجيل الذي يركض نحو
هلاك وانحطاط وجحيم ثقافي مستعر، وتحديدا أسلوب تلقين الرواية الواحدة
والفكرة الواحدة حتى انتفخ شباب هذه الأمة بيقين زائف ومخادع ومثير للضحك والسخرية
في كثير من الأحيان، فقد ارتأيت مهاجمة ظاهرة الاقتباس المؤدلج من كتب المستشرقين.
في الصفحة الأولى من
الترجمة العربية لكتابه الشهير حضارة العرب، يدون المترجم اقتباسيين آخرين من
الكتاب:
"لم ينتشر
القرآن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها"
"إذا حدث أن
اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام واتخذوا من العربية لغة لهم لما رأوه من عدل
العرب"
ويتم نشر هذه الاقتباسات
بشكل واسع لتغزو عقول شباب الأمة المنتفخين أصلا بيقينهم، والذين لم يتعلموا يوما
ثقافة الشك ولا مراجعة الذات ولا دراسة تاريخهم وحضارتهم بشكل موضوعي بعيدا عن
ثقافة الاقتباسات.
بعد ذلك يطالعك الكتاب
12 تقريظاُ - ان جاز القول - للمترجم والكتاب معاً يقول أحدهم " والله لو لم يترجم عادل زعيتر تلك المجلدات العربية من أمهات الكتب
بذلك القلم السيال البليغ واكتفى بترجمة كتاب حضارة العرب لجوستاف لوبون وحده
لكفاه فخرا وخلودا، ويقول مقرظ آخر: ما عرف العرب
في كل العصور مؤرخاً أنصفهم وروى حقيقتهم كما صنع جوستاف لوبون عندما وضع سفره
التاريخي !!... حتى يتهمه من لا يعرف المؤلف النزيه المتحرر أن يتزلف للعرب! ثم يواصل
المترجم مدح من يصفه بالعلامة لوبون ومدح أسلوبه في البحث وهو ما لا يمكن
برأيي التشكيك فيه ثم يشير المترجم إلى إنصافه لحضارة العرب وإشادته بالرسول
الأعظم ودفاعه عن مكانة المرأة في الإسلام ومبدأ الجبرية بالقرآن وعن تعدد الزوجات
... وكأن لوبون صار نبيا من أنبياء الله
!!
وهكذا يتم دمغ عقول
الشباب بتاريخنا الذي لم يشكك فيه حتى الأعداء، وكل ما سأقوم به هو استخدام نفس
سياسية الاقتباس من نفس الكتاب الذي أظهروه لك وكأنه قرآن آخر دغدغ يقينك
بتليد مجدك ويقين معتقداتك، وفيما يلي اقتباسات متفرقة من نفس الكتاب:
"تقول القصة
أن محمداً سافر من عمه إلى سورية مرة، وتعرف في بصرى براهب نسطوري في دير نصراني
وتلقى منه علوم التوراة" ص 102
يرد علماء المسلمين على
شبه هذا اللقاء بأن محمدا كان صغير السن ولا يمكن أن يتلقى كل هذه العلوم بهذا
العمر وبهكذا لقاء سريع – أذكر أن هذا الرد كان في كتاب التربية الإسلامية في
المرحلة الإعدادية، لكن جوستاف لوبون يعود في الصفحة التالية ليقول:
"واذا أضيف
إلى شهرته حسن صحته علمنا السر في عطف خديجة التي كانت أرملة غني، عليه وتفويضها
أمور تجارتها إليه، وتهيأ له السفر إلى سورية بذلك والاجتماع مرة ثانية
بالراهب الذي أطلعه على علم التوراة سابقاً وكان عمره 25 سنة" ص103
اقباسات أخرى:
"ويقال أن
محمدا كان قليل التعلم، ونرجح ذلك، وإلا لوجدت في تأليف القرآن ترتيبا أكثر مما
فيه، ونرجح أيضا أن محمدا لو كان عالما ما أقام دينا جديدا" ص111
"وضعف
محمد الوحيد هو حبه الطارئ للنساء، وهو الذي اقتصر على زوجته الأولى، ولم يخف محمد
حبه للنساء فقد قال:"حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عيني
في الصلاة" ... ولم يبال محمد بسن المرأة التي يتزوجها، فتزوج عائشة وهي بنت
عشر سنين، وتزوج ميمونة وهي في الحادية والخمسين من سنيها... وأطلق محمد
العنان لهذا الحب، حتى إنه رأى اتفاقاً زوجة ابنه بالتبني وهي عارية، فوقع في قلبه
منها شيء، فسرحها بعلها ليتزوجها محمد، فاغتم المسلمون فأوحى إلى محمد بواسطة
جبريل آيات تسوغ ذلك وانقلب الانتقاد إلى سكوت" ص112
"ويجب عد محمد
من فصيلة المتهوسين من الناحية العلمية كما هو واضح، وذلك كأكثر مؤسسي الديانات" ص114
ويضع المترجم حاشية أسفل
الاقتباس الأخير مشيرا إلى أن ذلك من كلام المستشرقين وكأنه ليس هو وأصحابه الذي
قرظوا للكتاب من أشبعونا مدحا في جوستاف لوبون ومنهجه العلمي واستخدامه للصور
والأدلة التاريخية في كتابه.
بالنسبة للجيل المخدوع
الذي سينفجر من فرط اليقين الذي تلقاه فإنه لن يعرف إلا الاقتباسات التي أخبروه
إياها لتقوية يقينه، وبالنسبة للمثقف الجبان فانه سيتهم جوستاف لوبون بالتناقض
لأنه صار من الصعب أن نفهم أن التناقض هو نتاج تحري الصدق والأمانة العلمية بالطريقة
التي يعتقدها الباحث، وليس نتاج الضعف أو نقص الحجة، فلوبون فعلا من
أكثر المستشرقين انصافا وصدقا ومنهجه العلمي الموضح في بداية الكتاب يؤكد ذلك، أما
الدليل الفعلي على صدقه فهو ما نسميه نحن بالتناقضات، فنحن حتى حين نبحث يكون
بحثنا عن أدلة على ما نعتقده مسبقا وليس عن الحقيقة أيا كانت لذلك فنحن أبعد الناس
عن التناقض وأكثر من يعتبر أن التناقض تهمة، وأكثر من نافقوا الله وكأنهم غير مطلع
على سرائرهم وجبنهم وانحرافهم الفكري، وكأنه لا يعرف أنهم نافقوه جبناً وخوفاً .
لا تدافع عن مرحلة لم تراها عين المؤرخ المحايد:
"لم يعرف
القدماء من جزيرة العرب سوى الشيء القليل، ولم يتحدث هيرودوتس عنها أكثر من بضع
كلمات، ولا يؤبه للأخبار الناقصة التي أتى بها استرابون وديودورس الصقلي، وهما
اللذان أسندا إلى جزيرة العرب من المنتجات، في الغالب، ما كانت تصدره اليها بلاد
الهند فتصدرها إلى الخارج."
جوستاف لوبون- حضارة
العرب ص 47
كان يفترض أن يتحدث مقطع
"لا تدافع عن الفرسان الفاتحين" عن الفتح الإسلامي للمدائن عاصمة أكاسرة
فارس والوقفة التاريخية لثلاث فتيات منتقبات هن بنات كسرى (يزدجرد) أمام عمر بن
الخطاب الذي حاول كشف وجوههن فقاومن وبكين فعلاهن بالسوط وتدخل علي ابن أبي طالب
قائلا: مهلا يا أمير المؤمنين فإني سمعت رسول الله يقول : ارحموا عزيز قوم ذل،
وغني قوم افتقر، ودفع بإحداهن (واسمها شاه زنان) لابنه الحسين فأنجبت
له علي بن الحسين (زين العابدين)، وهو الإمام الرابع للشيعة لكن مراعاتي لطول
التدوينة وانشغالي بأمر أخر يفرض علي تأجيل هذا المقطع. ، وما يمكن الاستفادة منه.
لكن ما لا يمكن تأجيله،
هو الأمانة العلمية ونقد الذات في توضيح بعض المغالطات التي قد تظهر في
التدوينة والتي قد يفطن لها القارئ الذكي، وأولها ال chronocentrism التي تتمثل بعرض تصرفات
وسلوكيات وأخبار عن أمم غابرة في ميزان الذوق المعاصر الذي سيلفظها مهما حاول
تبريرها، وهذه مغالطة ينبغي على من يدرس التاريخ أن ينتبه لها جيداً، وإني لأتمنى
أن يثير كل من يقرأ هذه التدوينة هذه المغالطة فهذا سيعني أنني مضطر للتنازل عن
هذه التدوينة لكن ما الذي سيتنازل عنه هو حين يسلم كلانا بالبعد عن ال chronocentrism، فأنا سأتخلى عن تدوينة وهو سيتخلى عن
منظومة تشريعية كاملة وحينها لن يكون هناك حاجة أصلا لتدوينة كهذه.
أما المغالطة الثانية
فهي حمل الخصوص على العموم، وهل ذكر قصة أو قصتين عن هذا التضارب التاريخي
يعني الدعوة لترك كل التاريخ المقدس، والحقيقة أنها دعوة للانتباه وتحري
الرواية الأخرى لأنك دائما ستجد الرواية الأخرى فحتى الحمامة لم تبض على باب الغار
ولا المسامير دقت في يد المسيح، ووصولك لمثل هذه الدعوة أمر حتمي كلما بحثت أكثر،
وحينها ستشاركني هذا النداء وهذا الاعتراف بأن التاريخ المقدس هو الأكثر
عرضة للتزوير كما القصيرات أكثر عرضة للقُبلات المفاجئة، وأعود لأنوه أن
الدعوة لعدم اعتبار أي رواية تاريخية أقوى من رواية تاريخية فيما سينعكس على
واقعنا بالفرقة والتشظي والصراع والقتل الناتج عن محاولة كل طرف ترسيخ القدسية
وإضفاء الصورة اليقينية على روايته في عقول أجياله، لا يعني مطلقاً الدعوة لتجاهل
الإرث الأدبي والفني والعلمي للحضارات الغابرة، ولا ترك الأركيولوجيا
والأنثروبيولوجيا والميثولوجيا، ولا التنكر للتاريخ الحديث، إنها دعوة لاعتبار كل
التاريخ سواء حين يتعلق الأمر بخلاف حقيقي، ودعوة للكف عن خداع هذا الجيل الغض
بهذه الطرق الرخيصة، ودعوة لتعلميه ثقافة الشك التي جعلها فقهاء متأخرون من عمل
الشيطان وكأن الأدلة القرآنية – الكتاب الأكثر يقينية وتقديساً- على هذا
المنهج ليست دامغة، وكأن أبو الأنبياء لم يشك، وكأن الصحابة لم يتبرموا لبعض أفعال
النبي حتى نزل التشريع فصمتوا، لان الوحي هو الشيء الوحيد الذي نصمت أمامه، وأي
محاولة لدفعي لصدام مع الكهنوت لهو في قصور فهمك للدعوة الحقيقة لهذه التدوينة،
فهي دعوة لترك التاريخ الذي مهما حاولنا تجميله يبقى تاريخ وسيبث بيننا الفرقة
وليس لطرف حجة حقيقة فوق طرف.
لقد ضم التاريخ بعض
الروائع الأدبية التي لم تنل السنين من روعتها، ومن أخبار الأمم الغابرة ما قد
يمنحنا تصورا عن حقائق اقتصادية وطبيعية، وإرث حضاري عظيم لشعوب مختلفة،
وميثولوجيا متواضعة القدسية رغم عظمتها الأدبية واختلفنا في تفاصيلها بهدوء، وإن
الاهتمام بهذا التاريخ أهم وأولى من تحويل التاريخ إلى صراع بلا معنى، أو اعتباره
وصايا سماوية لا يجوز الشك ببشرية من تناقلوها عبر هذه السنين، أو التناحر
والموت دفاعاً عن نص افترضنا قدسيته، أي أنني لست من الجيل الذي توقع مسيو رينان
ظهوره وهو الجيل الذي لن يبالي بالماضي وسيهتم أكثر بالفيزياء والعلوم التطبيقية
فشغفي بالميثولوجيا الإغريقية يفوق شغفي بمعادلة شرودينجر ولكنه تحدث بوضوح عن
خشيته على ضياع دقائق الأدب وروائع الفنون، وهو ما أدعو للاهتمام به لا تركه، وليس
أدل من حبي لهذا التاريخ من هروبي اليومي إليه من دراستي الأكاديمية العلمية لكني
هنا أعلن ظهور جيل يكفر بصراع النصوص التاريخية التي تلقي بظلالها على عصرنا
الحالي، ويرفض الاعتراف بفضل دين على دين أو طائفة على طائفة اذا تعلق الأمر
بالصدام والتفاني، ويرفض منظومة التلقين والتجهيل التي مورست على هذا الجيل
عبر سنين طويلة، ويرفض أن يقوم إيمانه على الجهل والانغلاق، ويرفض الفرقة بسبب نص
مهترئ، ويرفض المساومة على حبه للاطلاع.
أما المغالطة الثالثة
فستكون في فهم النهي المتكرر ب (لا تدافع) أنه يعني أن تتبنى الرواية الأخرى، بل
هي دعوة بالمثل، فما ذكرته مثلا عن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وابنه لا
يعني أني أحاول أظهار حقائق لا تعرفها أو تشويه مقدسات تقدسها، بل هي استعراض
للرأي الآخر الذي لا تعرفه ولو كان هذا ما تعرفه لعرضت عليك مناقبهم ومحاسنهم التي
تزخر بها الكتب فلا تدافع عن رواية تاريخية فكل الروايات سواء، ولا تتبنى موقفاُ
مضاداً في ضوء أي نص تاريخي ذكر في التدوينة فهو لا ليس أصدق ولا أكذب مما تعرفه،
ولو أردت أن أدافع عن شيء في كتاب الطبيب والمستشرق الفرنسي لوبون فسأدافع عن
المقطع التالي فقط:
"والشرق مرجع
دائم لرجال الفن والعلم والأدب، وما أكثر ما جلست تحت نخلة أو أمام معبد فأخذتني
سِنة، وخضت في بحر الخيالات، وأبصرت من خلالها سالف الأجيال، وتمثلت لي مدن غريبة
ذات أبراج مشرفة، وقصور عجيبة ومعابد شامخة ومآذن تتلألأ تحت وهج الشمس، ورأيت
قوافل من أهل البدو وجموعاً من الشرقيين بملابسهم الزاهية وشراذم من الأرقاء السمر
ونساء مخدرات تجوب تلك المدن، ولا مراء في تواري نينوى ودمشق وأورشليم وأثيتة
وغرناطة وممفيس وطيبة ذات مئة الباب وأفول نجمها، ولا ريب في أن قصور آسية ومعابد
مصر صارت خرائب وأطلالاً، ولا شك في أنه لم يبق من آلهة بابل وسورية وكلدة ووادي
النيل سوى ذكريات"
وختاماُ، فهذه المغالطات
كتبت لما قد يتبادر إلى ذهن القارئ الفطن الذكي، أما أصحاب الشعارات المستهلكة،
والعبارات الإنشائية التي لم يفكروا يوما بفهمها ممن سيقولون لك أن من لا ماضي له
لا حاضر له، ومن سيقولون أنك أفرغت التاريخ من مضمونه، ومن سيضعوك في صدام مع
اللاهوت والتشريع، فلا شأن لي بهم، أنا من تراب
الشك وهم من نور اليقين، فما أصدق المؤمنين المدججين بالنصوص التاريخية، وما أصدق
التاريخ المدجج بهم ... وما أكذبني
!!!
باســــــل