إلى أحمد وجود
لاجئان في خيمة الأناضول العظيم
إلى هبة
كلما أخفت لكنتها اللندنية
خجلاً أمام سؤالكم المُلِح عن الغياب، واعتذاراً عن وحشة المكان الذي لم تجدوني فيه.
=============
١١ حزيران ٣٢٣ ق . م - بابل
في مكان ما من قصر الملك البابلي نبوخذنصّر، بالقرب من حدائق بابل المعلقة التي بناها الملك لزوجته الفارسية التي لم ترق لها ضفة الفرات المنبسطة فبنى لها الحدائق المعلقة لكي تحاكي تلال فارس الي اعتادتها وحنت إليها، وفي المدينة التي شهدت أمجاد حضارة الرافدين، اشتدت الحمى بالفاتح الذي لم يخسر حرباً والشخصية العسكرية الأبرز في التاريخ، لينتصر المرض في النهاية على الاسكندر الأكبر الذي وصلت حدود مملكته الى السند شرقاً ليموت على ضفة الفرات قبل أن يتم عامه ال ٣٢ في نفس المكان الذي مات فيه نبوخذنصّر بمرض لم نعرف كنهه بعد.
مات الاسكندر، فانكسفت الفلسفة وأفل نجمها، ليبدأ ما بات يعرف بالعصر الهيلنستي الذي تراجعت فيه الفلسفة الحقيقية سوى من بعض الرواقيين وبعض الابيقوريين المتخبطين بين اللذة والألم.
قبل موت الاسكندر بلغت الفلسفة أوجها وعزها مع أرسطو الذي كان معلماً للاسكندر في صباه وتوفي قبله بعام ليُختم بموتهما أزهى عصور الفلسفة وتبدأ فيما بعد اشباه الفلسفات التي برزت في العصر الهيلنستي، ولم يكن غريباً أن يجد بعض المعاصرين متعة ما في السخرية والتطاول على أرسطو معلم البشرية الأول لأنه سقط في أخطاء علمية أصبحت راسخة في عصرنا هذا، اذ ستمنحك هذه السخرية العابرة بعداً من العمق والعلم أمام الآخرين وهو ما لا تستحقه كونك على الأرجح سمعت عنها دون أن تقرأ شيئا عن فلسفة أرسطو الذي لا تكفي حياة واحدة لدراستها، والحقيقة أن الموسوعية الرهيبة التي بلغها هذا الفيلسوف في خوضه بكل العلوم بلا استثناء مُغلباً -في العادة- فكرته عن أصالة العقل والتأمل الخالص على ما بتنا نسميه الآن بالمنهج العلمي ليقول مثلاً بلا برهان وبتأمله المحض أن قلب الحصان يحتوي على عظام وأن الدماغ بارد لا يمر فيه الدم، وكل ما بات فعلاً يستحق السخرية الآن .
لكن ما لا أستسيغه هو ذلك التناقض الذي يقع فيه من يسخر من قول أرسطو بأن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل بحجة أنه لم يفكر للحظة بأن يفتح فم امرأة ليعد أسنانها، لأن هذه السخرية بالذات تشكل بالنسبة لي جهلاً مركباً في أصول المنطق الذي بتنا فيما بعد نسميه بالمنطق الأرسطي والذي شكل أساس المنهج العلمي الذي نعرفه الآن ونهاجم بأناقته وحجيته ما صار تراهات أرسطو، بل قد بدأ بعض الباحثين باتهام أرسطو بأنه ليس أول من أرسى دعائم المنطق أو على الأقل أنه لم يمارس هذا المنطق سيما مع كمية الأخطاء التي ارتكبها.
لقد قام المنطق الأرسطي بشكل أساسي على نوعين من الاستدلال:-
١- الاستدلال الاستنباطي: ويكون من العام إلى الخاص مثل قولنا خالد إنسان، الانسان يموت، اذن خالد يموت.
٢- الاستدلال الاستقرائي: ويكون من الخاص إلى العام مثل قطعة الحديد هذه تتمدد بالحرارة، اذن فكل قطع الحديد تتمدد بالحرارة.
ويقسم الاستدلال الاستقرائي إلى نوعين
١- كامل: أي أنه يجب فحص جميع الحالات قبل الخروج بالتعميم أي يجب فحص جميع قطع الحديد لنقول أن كل الحديد يتمدد بالحرارة.
٢- ناقص: أي بفحص مجموعة كبيرة أو صغيرة لنعمم القانون على كافة العناصر المشابهة.
لقد رفض المنطق الأرسطي تسويغ حجية الاستقراء الناقص التي لا يمكن أن يقول بها إلا غافل، فاذا مر أمامك مجموعة من الشقراوات أو عشت في مكان كل نساءه شقراوات فهل يعني ذلك أن كل النساء شقراوات، وهل من المنطق أن تمدد قطعة حديد ما بالحرارة يعني تمدد كل القطع بالحرارة، لذلك لم يكن هناك معنى بأن يقوم أرسطو بفتح افواه نساء اثينا ليثبت شيء لأن هذا الاستقراء ناقص ولا قيمة له حتى لو أثبت ان كل النساء في أثينا يستوي عدد اسنانهن بأسنان الرجال وذلك بالطبع لا يعني الدفاع عن المنطق التأملي المحض الذي اتبعه أرسطو ولا يشفع له سوى وحشة الغموض الذي كان يلف كل شيء ولا نستطيع الان استشعار هذه الوحشة المخيفة بعد أن أزال العلم الغموض عن كثير من الظواهر،لذا فلا معنى للهجوم الساذج على المنطق الأرسطي ولا حتى لتعميق نقده لان أبسط انسان في هذا العصر قادر على ذلك، ومن المعيب السخرية من عدم محاولة أرسطو عد اسنان النساء دون ان نعرف أن المنطق الأرسطي رفض الاستقراء الناقص مهما بلغ عدد العينة التي تم فحصها.
بل ذهب أعمق من ذلك إلى ضرورة تحري إتصال السبب بالنتيجة بما ينفي المصادفة أي أن تمدد الحديد عند تعرضه للحرارة قد يكون مجرد مصادفة حدثت لمرة او مرتين أو حتى ألف أى بضرورة وجود فكرة مسبقة عن اقتران المسبب بالنتيجة وهذا ما نسميه الآن بالتجربة التي يقوم عليها العلم الحديث، لكن الأهم من ذلك ما عالجه الغزالي في معيار العلم وابن سينا في البرهان هو كيف نسوغ لحجية الاستقراء الناقص وهو ما يمكن تلخيصه مثلا بوجود تشابه بين عناصر العينة وهذا التشابه هو مفتاح تسويغ هذا الاستقراء كحجة وهو أساس كل العلوم الحالية لكن بمنظور أعمق للتشابه.
ربما بالنسبة للفيلسوف المتمنطق فإن تسويغه للاستقراء الناقص مثلاً في تمدد قطعة حديد انه القطع الأخرى لها نفس الصلابة والوزن والمتانة وهكذا يتوقع لها سلوكاً مماثلاً اذا تعرضت للحرارة، وما يستطيع تمييزه من تشابهات ليعمم فكرة تمدد الحديد بالحراراة باستخدام استقراء ناقص قائم على مسوغ التشابه المحسوس وتلك الخطوة الأولى والتأسيس الفلسفي للعلوم، لكننا الأن سنسخر من كل ذلك فقد اشتد عود العلم في هذا الجانب مثلا فنعرف الآن أن أي مادة تتكون من ذرات متصلة عبر روابط وهذه الذرات تتحرك باهتزاز ذري موضعي يزداد بازدياد درجة الحرارة فيؤدي لتمدد المادة، ولأن كل المواد تتكون من ذرات فجميع المواد بما فيها السائلة والغازية تتمدد بالحرارة وليس فقط المعادن، أي أن مسوغ الاستقراء هو ما يمنح المنطق صبغته العلمية، وصرنا نعطي كل مادة معامل تمدد محدد بحسابات دقيقة، ونعرف أن شذوذ الماء عن القاعدة بين درجتي الحرارة ٠-٤ ناتجة عن انخفاض كثافته بازدياد درجة حرارته مما يؤدي لانكماشه، بهذه الطريقة انتقلت الملاحظة البسيطة والمسوغ الحسي البسيط للاستقراء إلى علم متكامل دقيق ومتقن وله تطبيقات عملية مفيدة للبشر.
لكن لنعد قليلا إلى الوراء لحقبة ما قبل سقراط أي قبل تكون مفهوم الفلسفة أصلا، وقبل وجود المنطق الأرسطي حيث ساد التأمل المحض معظم نتاج تلك الفترة فقال طاليس بالأصل الواحد للأشياء، وقال أنكسمندر بالأصل المشترك للأنواع وهي ما أصبحت الداروينية فيما بعد، وقال أناكساجوراس بتعدد العوالم ووجود كواكب ومجرات أخرى، وقال ديموقليطس بالجزء الذي لا يتجزأ وهو الذرة، كل هذه الافكار جادت بها خيالات فلاسفة موغلين في القدم بالفترة القبل سقراطية وكلها أصبحت الآن نظريات علمية راسخة ومفصلة وثابتة، فهل يكون التأمل مرحلة سابقة للمنطق الفلسفي البسيط وللعلم الدقيق.
اذن فتأملات الأمس هي فلسفات اليوم وفلسفات اليوم هي علم الغد، وكل الأفكار التي تخرج عن ذلك مارقة وبلا قيمة، وكل جدل يعدو ذلك جدل عقيم، وهذا ما يدفعني للتساؤل دائما عن جدوى ما ظنناه لفترات طويلة قضايا أساسية في الفلسفة، ما الذي يهمك في جدل القدرية والجبرية ومراوغات الأشاعرة أي هل علينا فعلا التفكير فيما اذا كنا مسيرين أم مخيرين ما دام كل منا قادر على ترك هذا الجدل واضافة مقالة علمية للويكيبديا، او الانصراف إلى عمله في مسفى أو مصنع، ما الذي يهم الناس في قدم العالم او قدم الله أو كونه مخلوق في زمن او غير مخلوق وأزلي، ما لم يتطور هذا الجدل ويأخذ شكله العلمي اذا افترضنا على سبيل المثال نظرية الانفجار العظيم وبذلك ينتهي دور التأملات الفلسفية في قدم العالم، وماذا يهم ان كان كان الكون خلق لمرة ويختلف فيه ظهور الكائنات أم ان الله يخلق الكون في كل لحظة وأنه لم يتوقف عن الخلق وما جاء به مالبرانش.
إن أي جدل فلسفي لم يتطور ليتولاه العلم ثم يحقق من خلاله فيما بعد ما فيه فائدة للناس وتسهيل لحياتهم لهو جدل مذموم واضاعة للوقت، فغاية الفلسفات أن تطوّع الأفكار لتخضع لقوانين العلم وغاية العلم تسهيل أمور الناس من خلال المجالات المختلفة في الطب والتنكولوجيا والتصنيع والغذاء والتطبيقات العملية المجدية للافكار العلمية، وأي فصل بين الفلسفات والعلوم أو تصوير لهما كخطوط متوازية لهو في ذهن الانسان القاصر الذي لم يعي كيف تطور العلم وكيف كان منطق أرسطو الساذج بالنسبة لنا الآن عبقرية ذلك الزمان وأساس العلوم الحالية.
إن أعمق الاختلافات الدينية والعرقية لا تعدو كونها مثال مخجل لهذا الجدل المذموم لو استطاع اصحابه التفكير للحظة بمعناه، فإن كان المسيح مات على الصليب أو صعد للسماء هل سيصنع ذلك أي فرق في حياة مريض بالسرطان؟ هل سيشعر طفل في افريقيا بالشبع؟ هل سيشعر لاجئ بالدفئ؟ هل سيسهل الاتصال والانتقال؟ هل سيجعل حياة الناس أكثر رفاهية باجابة واضحة دون عصا اللاهوت، اذا قلت الآن أنه المسيح توقف قلبه على الصليب وجاء رجال من المستقبل وصعقوه ب ال DC shock وقاموا بانعاشه ثم ذهب للتجارة في الهند ومات هناك بسرطان الرئة أو الملاريا .. هل سيشكل ذلك أي فارق ؟!
وكما اعتدت أن أسبق القارئ لثغرات ما كتبت، فإن الفكرة التي تعرضت لها من جعل منفعة الناس مقياس أوحد لكل الفلسفات والعلوم والمعارف يجعلنا أمام سؤال أكبر لم اجد اجابته، وهو كيفية تمييز هذه الفلسفات التي قد تفضي لعلم ينفع الناس سيما في مراحلها الأولى التي تبدو فيها أقل اقناعا ومعنى، ففي تلك اللحظة التي كدت فيها أجزم بعبثية عصر المدرسيين الخجولين الجبناء أمام الوحي ذوي الفلسفة المقلوبة التي بدأت بالاستنتاج وبحثت عن التبرير لكن في نفس اللحظة اجتذبتني نزعتي الشكية ورغبتي في نقد الذات، والثغرة الأخرى اذا اعتبرنا الجماليات و الفنون بأنواعها تصطف مع العلوم في ترفيه الإنسان وتسهيل حياته فكيف لنا قياس النظم الاجتماعية والقوانين الجنائية وكل الدراسات الانسانية دون أن نرتد مجدداً للخلاف الديني والعرقي والمذهبي الذي في جملته اختلاف بلا معنى إلا فيما يتعلق بارساء دعائم نظام اجتماعي متين ومنظومة قانونية عادلة ومرنة والتي لا يمكننا تحويلها سريعا لتطبيقات نخلص بدقة لنسبة نجاحها أو فشلها في جعل حياة الناس أفضل، هذه الثغرات هي ما سأحاول سده في تدوينة لاحقاً لترسيخ فكرة أننا بامكاننا الكف عن أي جدل لا يصب بشكل عملي وواضح في منفعة الناس.
أما الجانب الروحي، واذا تجنبت الخوض في قيمته من البداية، فهو ليس بثغرة في هذه التدوينة باعتباره وسيلة أيضا في جعل الحياة أفضل وتحسين قدرة الانسان على التكيف والانسجام مع متغيراتها أو مواجهة قسوتها وظلمها، لكني أرى أن التجربة الشخصية هي الفيصل في الخلاف ولكل شخص أن يعيش تجربته الروحية الي تدفعه للأمام ولا معنى لاعتبار أن هناك طريق أفضل من طريق او الاختلاف على ذلك.
باســــــــل