وإذا استعرضنا التاريخ .. فإننا نجد أحداثا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين .. مثلا .. كان من الممكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن أسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل سيمون بوليفار ..
هذا ممكن جداً. على أن يجئ بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل.
هذا ممكن جداً. على أن يجئ بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل.
مايكل هارت – الخالدون ص 18
ليعذرني مايكل هارت، ليس لأنني سآخــذ عليه ضعف اطلاعه على الحضارة الشرقية أو حتى الغربية، فهو بالنهاية عالم فلك ورياضيات، وأنا أصـعد بطـيئاً سلم الطب المترهل بأكثر طرقه كلاسيكية، لكني صدقاُ لم أستسغ فكرته بإمكانية وقوع أي حدث تاريخي أو اكتشاف بغير أصحابه المعروفين، وليس لأن فكرته تقودني ببساطــــــة إلى التفكير أنه لو لم يخلقنا خالقنا لخلقتنا آلهـــة أخرى تسكن على كوكب نايبـيرو أو حتى مردوخ أو الثالــوث الإلهي Anu, Enlil, Ea ! ولو لم يدرس داروين النشوء والتطور لدرسته جدتي !، ولو لم تعد أمي الفطور صباح اليوم لأعدته لي أم أخرى، وربما يقتلني أحد أصدقائي إذا قلت له انه لو لم يحب فتاته التي يحب لأحب فتاة أخرى، ولأحبت هي شخصاُ آخر، لا شيء يحدث إلا بمن فعلوه، حقاً لا أعرف كيف جاء هارت بهذه القاعدة الحساسة في مطلع كتابه والذي في النهاية ليس مقصده فلسفيا بقدر ما هو ترفيهياً لكنه خرج بهذه القاعدة الغريبة، التي أرقتني أياماً، ثم نسيتها عاماً، ثم قررت الثورة عليها بنفس المنطلق الافتراضي دون أي أدلة في النهاية سيعجز كلانا عن جلبها، سوى بالسفسطة والتمثيل .
إن الأولى من إطلاق الافتراضات المجردة، هو الالتفات للحقائق غير المفترضة، إن الأولى من التسليم بما هو واقع لأنه واقع أو الاحتجاج بأرقام الإحصاء، هو البحث عن جذور المعادلة التضخمية التي خرجت بهذه الأرقام، ولا يجوز لأي عقيدة الاستدلال على صوابها بكثرة عدد أتباعها أو تهميش غيرها بقلة عدد أتباعها فكل الأديان والعقائد بدأت بنفس القلة ونفس الضعف وكان يمكن أن يؤخذ عليها ما تأخذه على نظيراتها .
إن هذه الدراسة تختص بعدد من الخصوصيات مختلفة الأوجه من الناحية الشخصية والبحثية، إذ أنني بدأتها لإثبات بطلان شيء بدا لي غير منطقي فوجدت أنه يزداد منطقية بالبحث، ثم اكتشفت بالنهاية أني خرجت بشيء أكثر حساسية وإثارة للجدل، من جهة أخرى ففكرة هذه الدراسة تكونت قبل عام، وأنجزتها حديثاُ في وقت قياسي -لكن مكثف- في محاولة للتخلص من التفكير بخطأ كان السبب في إحراجي أمام أحد المحيطين بي، حتى بت في أكثر مواقف حياتي ضعفا وبدأت أشعر أن هذا الضعف بدأ يسطو على تفكيري، وبأعجوبة منعته من التأثير على دراستي الأكاديمية واستطعت تأجيل مجرياته التي انتهت بأبشع ما قد تمتهن به كرامة الفرد، لكن خجلي من هذا الخطأ لم يسقط بالتقادم بل على العكس تفاقم يومياُ وبدأت ثقتي بنفسي تتزعزع، وشعرت برغبة جامحة لمعاقبة الذات سيما وأني جلبت لها الإحراج بقدر يعجز مجادل متمرس عن التخلص منه، ولم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في سذاجة سلوكي، وكنت أحاول الانشغال عن ذلك ببعض القراءة والاطلاع الخفيف بين الرواية والشعر والفلسفة والجمال لكن لذلك لم ينجح في كبح جماح حاجة ملحة لمعاقبة الذات تصرخ بها كرامتي لذا لجأت للبحث والتقطت أول ما مر بخاطري من المواضيع التي فكرت بالبحث عنها وعلقت ذلك لأسباب أكاديمية، في حين آثر أحدهم أن يكرس وقته بالكامل لتملق الغير، والتذلل المخزي، والترويح عن النفس .. تعساً لهم كم حملنا همهم المكذوب وليلهم الذي لم يعرف عن ليلنا شيء، وكل ما لا يعنيني سوى نفاق تظاهره الكاذب بالوقوف عند مسؤولياته التي لا يعرف عنها سوى ساديته البغيضة، وأدركت بين كلمات هذه الدراسات وبعض ما قاده القدر لي على شكل صدف إن البعض يزداد إمعاناً في تبلده وانحطاطه، لا عجب أني كنت في طفولتي المبكرة أعتقد أن الضمير عضو من أعضاء جسم الإنسان يشغل وسط الصدر ويقع القلب على يساره ... الآن وقد بلغت من العمر عاماً بعد العشرين، ثلاثة منها في دراسة الطب، أضحك على كثير من ذكريات طفولتي إلا هذه لا تشعرني بالسذاجة ولا تدفعني للضحك، بل للبكاء أحياناُ !
وكانت هذه الدراسة هو أول ما قفز أمامي حين فكرت بالمواضيع العالقة بعضها منذ سنين، لذا ارتأيت أن أضيف لها خصوصية أخرى وهي نشرها بعد امتناع طويل عن نشر أي دراسة مشابه بالطرق العامة دون أي قيود، ولست أعول بذلك أن يكمل قراءتها سوى أولئك الذين اعتدت أن أرسل لهم الــ52 دراسة سابقة، ولا يساورني شك بأن عدد الذين سيصلون للنقطة الأخيرة في البحث هو نفس العدد الذي يمثل المأساة الحقيقية للمثقف العربي المعاصر المصاب بنقس المناعة المعرفية المكتسبة، لكن الخصوصية الحقيقة بأنها ستكون آخر دراسة ثيولوجية أقوم بها على الإطلاق، لذا سأقوم بنشرها على مدونتي الخاصة كما لم أفعل سابقاً، لأن آخر دراسة ثيولوجية لابد أن تكون ضمن ما قد أود استذكاره بعد 50 عاماُ من الآن ، أو ربما سأتذكر أني الأحمق الوحيد الذي قضى إجازته النصفية بين فصلي عامه الثالث في الطب غارقاُ بين عشرات الكتب والنصوص الدينية و التاريخية والفلسفية في محاولة للتخلص من التفكير بشيء واحد، وسأخيب للمرة الأولى ظن أحد أصدقائي الذي يصر بأنني أمتلك أسلوباً غامضا في سوق القارئ سوقا لمتابعة القراءة حتى آخر حرف فيما أكتب، أعتذر يا صديقي هذه المرة، ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي أقوم بنشر بحث من هذا النوع، لكني اعتدت أن أتخلى عن هذا السحر أو في الحقيقة هو من يتخلى عني في كتاباتي البحثية وأنشد الحقيقة لا غير، لذا كن حذرا هذه المرة، لأنك سيد نفسك ولن أطلق أي تعويذات لدفعك لمواصلة القراءة سوى انجذابك للمعرفة، أو توقك للحقيقة، لكني أثق بك يا صديقي، لأني أعرف ثقتك بي، وأعرف أن ستقرأها بنهم، فلست ممن يضيعون روعة النهايات، وأعرف أنك من القلة!
• إلى الذين صعدوا.. فكم كانوا هنا !
ولأستاذ اللاهوت الأول، وصاحب عيني اللوتس مع الشكر على الدعم المعنوي ..
وإلى صاحبة اللغات السبع: (أمنية) مع الشكر على الترجمة ...
وإلى آخرين لا أعرفهم سيقتحمون حياتي لاحقاً ..
ولأستاذ اللاهوت الأول، وصاحب عيني اللوتس مع الشكر على الدعم المعنوي ..
وإلى صاحبة اللغات السبع: (أمنية) مع الشكر على الترجمة ...
وإلى آخرين لا أعرفهم سيقتحمون حياتي لاحقاً ..
أهدي بحثي هذا .
(إننا في حاجة إلى عون وإلى مساندة إلهية لكي نحفظ الحق إلى الأبد)
المؤرخ الكنسي: أوسابيوس القيصري
منذ مطلع القرن الحالي بدأت ثورة بحثية شاملة عن أصول المسيحية في ميثولوجيات –أساطير- حضارات قديمة، وكنت قد اطلعت على عدد لا بأس به من هذه الدراسات والأبحاث لوقمت سريعاُ بالتحقق من كل معلوماتها فوجدتها غاية في الدقة وحجم التشابهات الأسطورية لا يمكن إنكاره، ويذهب البعض إلى ما هو أبعد من شخصية المسيح واستنساخها المستمر عبر التاريخ، إلى استنساخ الأحكام والتشريعات، بدا ذلك لي لي كأنه المسمار الأخير في نعش أكبر ديانة على وجه الأرض بل وحتى أنه طال باقي الديانات الإبراهيمية، لكني وجدت نفسي أمام سؤال محير، كيف يمكن لديانة بهذا التزوير أن تصمد كل هذا الوقت وتحقق أوسع انتشار عقدي على مر التاريخ، كانت قراءة بعض الكتاب ببساطة تجعل الديانة الفرعونية أمتن وأصلب من الديانة المسيحية وأكثر منطقية أو دعني أقول أكثر أصالة على الأقل، فكنت أمام خيارين إما إثبات خطأ ما أقرأه أو إعادة تصوري للحد الأدنى من متانة الديانة أو إيجاد الطرق المريبة التي أدت لانتشارها الواسع، فبدأت محاولة بحث أعمق للبحث عما بدأ يثار مؤخرا إذ أنني وبمنطق التجردي الحيادي وجدت صعوبة في تقبل إمكانية أن تكون المسيحية بهذا الضعف وتصمد كل هذه المدة بهذا الانتشار سيما وأني أدرك أن الإسلام قد حقق انتشاراته بفتوحات سياسية طالت الشرق والغرب ووقفت على أسوار روما وباريس ولم تقتصر دعوته على مهده في بلاد الرمال، لكن المسيح لم يحمل السيف يوماُ ومات في ريعان شبابه وأصل دعوته كانت للسلام وحقن الدماء وحقوق الفقراء وتحريم التعدي والظلم وغيره من الأحكام التي جاءت بها كل العقائد والدعوات،وجملة العظات التي جاءت في العهد الجديد، أو على الأقل هذا ما سيجول بخاطر الشخص العادي متوسط الاطلاع.
والحقيقة أني حين بدأت الدراسة كنت أرتكز إلى هدفي الأوحد من وراء البحث الثيولوجي الديني، وهو إثبات فكرة المساواة و التعايش الديني والعقائدي، والدفاع عن مبدأ عدم وجود العقيدة الضعيفة جدا أو الديانة القوية جدا أو مثاليات الشباب الغض، وترسيخ مبدأ قهر الذات بما تشتهي والتأكيد على مفاهيم الأخلاق العامة التي يجب أن تقوم بعيدا عن محاولة بعض الأديان احتكارها كأنها جاءت بقدومها ، وإلغاء فكرة رجال الدين النورانيين، وأنه يمكن الدفاع عن كل ما هو ضعيف، وإضعاف كل ما هو قوي ومقدس لكني هذه المرة انتهيت لما هو ابعد من ذلك .
بدأت بالبحث دون أن أعي تماماُ إن كنت أبحث عن دلائل لتكذيب كل هذه الشبهات حول المسيحية، أم عن الطرق التي سُخرت للمسيحية دون غيرها فجعلتها بهذا الانتشار، ولو سخرت لأي عقيدة لحققت هذا الانتشار، وهل كان هذا التسخير متصل بالمسيحية بذاتها ؟!أم كان مرتبط بصدف أو اعتبارات أخرى؟!، لكني طالما قلت أن كل الأبحاث التي بدأها أصحابها للوصل لهدف محدد مسبقاُ قد جانبوا الحقيقة في رحلة هم أحوج ما يكونوا لها، وأن المعرفة لا تنطلق من اعتقادات راسخة، وأنك إذا نظرت لليقين سينظر إليك ، ومع التقدم بالبحث كنت أمام حقائق أكثر غرابة من فكرة ميثولوجية المسيحية.
في الإسلام، تعبر هذه الدراسة أكثر بساطة أو ربما لا تعد دراسة بقدر ما هي ثقافة عامة ، إذ يرجع الانتشار الإسلامي بالدرجة الأولى إلى النبي محمد (ص)، الذي كان قائدا على المستويين الديني والدنيوي ومع أن التاريخ لم يسجل معارك دعوية في زمانه، إلا أن الانتشار الحقيقي كان على يد الخلفاء الذي سيروا الجيوش لغزو الشرق والغرب فيما لا يعنيني الخوض فيه حالياُ، لكن الفكرة وراء ذلك أن الإسلام انتشر على يد رجال امنوا به، ودعوا إليه صدقاً ورغبة في تخليص الناس مما هم فيه من الضلال، ودعوتهم إلى الإسلام بصرف النظر عن الأساليب المتبعة وقبولي لها فقد كانت دعوة ظاهرها وباطنها الدعوة لاعتناق الإسلام، وهذا ما لن تجده في الانتشار الواسع للمسيحية والذي سأبينه خلال هذه الدراسة .
واستباقاً لما قد يظنه البعض، فهذه الدراسة لا تبحث في أصل التشريع الدعوي في الأديان، أو نظرة الأديان والكتب المقدسة لنشرها بواسطة السيف، إذ يعتبر ذلك مادة خصبة في إثارة الشبهات حول الأديان استنادا لنصوص تاريخية لا أكثر، ويحترف أتباع الديانات السماوية من الشباب الغض في إثارة هذه الشبهات كأنهم في معزل عنها، ويتغافل الكل عن حقيقة أن النصوص التي يرددها ليبين للآخرين دموية تشريعهم تكاد تطابق النصوص التي لم يقرأها هو في شريعته التي يحسبها مثالية، وأعود لاستخدام مصطلحي الأثير الذي أردده منذ أعوام "نصوص تاريخية" يمكن أن تنسب وتلصق حيث شئت، يمكنني مثلاُ أن أثبت لك سماحة العهد الجديد وإنسانية تشريعاته فأسوق لك قول يسوع:
"سمعتم أنهُ قيل عين بعينٍ وسنّ بسنٍّ. وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرَّ. بل مَنْ لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل لهُ الآخر أيضًا. ومَنْ أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأترك لهُ الرِداءَ أيضًا. ومن سخَّرك ميلاً واحدًا فاذهب معهُ اثنين"
( إنجيل متّى الإصحاح 5: فقرة 39-42(
( إنجيل متّى الإصحاح 5: فقرة 39-42(
وهذه القول ليسوع الذي يردده كثير من أتباع العهد الجديد، والذي يحاولون من خلاله التفريق بين تعليمات العهد الجديد والعهد القديم (39 سفر عند الكاثوليك، 46 سفر عند الأرثوذكس) و المتمثل في الشريعة الموسوية (العين بالعين) –والتي هي شريعة حمورابي من قبل وتلقاها أيضا (عبر الألواح) من اله الحكمة السومري سمس أو شمس !! -، إذ يحاول هؤلاء في العصر المعاصر تبرئة العهد الجديد من كثير من التعليمات التي جاءت في العهد القديم مثل:
"وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نسائهم"
(إشعياء 13 : 16)
(إشعياء 13 : 16)
"اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَةِ خَلْفَهُ وَاقْتُلُوا. لاَ تَتَرَّأفْ عُيُونُكُمْ ولا تعفوا. أَهْلِكُوا الشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ"
(حزقيال [ الإصحاح 9 : 5 - 7] على لسان (الرب)!
ولكن، الحقيقة أنه لا يمكن الفصل بين العهدين و العهد الجديد لا يخلو من مثل هذه التعليمات كما تسعى الحركات التبشيرية المعاصرة تصويره، هل يعتمد هؤلاء فعلاً ممن يسوقون مقولة المسيح سابقة الذكر في إنجيل متّى ": وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرَّ. بل مَنْ لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل لهُ الآخر"، على أن المتلقي لن يقرأ العهد الجديد ليدرك مدى التناقض الواضح حتى في تعليمات العهد الجديد نفسه، أوليس إنجيل متّى هو نفسه الذي حمل العظة:
"لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض.ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً"
(متى 10 : 34)
(متى 10 : 34)
بل إن حجم التناقضات التي يحملها العهد الجديد هي الشيء الوحيد الذي ينبغي إخفاؤه، وليس العهد القديم.
في الإسلام نال هذا الموضوع الكثير من الجدل عبر التاريخ، وأثيرت حوله كثير من اللغط والشبهات، وكان موقف علماء المسلمين منه عبر التاريخ غاية في التباين، أذكر من ذلك موقفاً شخصيا طريفاً يعتبر أفضل تمثيل على هذه التباين، حين زجّ بي أحد الأصدقاء في جلسة تضم عدد لا بأس به من الشباب العلماني واليساري و الراديكالي الإسلامي المتعصب فيما يشبه ساعة صفا، وكان هذا الموضوع من أكثر المواضيع الحاضرة وقد أخذني الحديث دون أنتبه إلى الصمت المريب الذي بدأ يلف المكان وأنا أسوق الأحاديث الصحيحة –التي لا أظنها صحيحة- والنصوص التاريخية وأحشو رأسي بالتفاصيل الدقيقة كأرقام الأحاديث ونصوصها الحرفية وأرقام الصفحات، والتي تدل بما لا يدع مجال للشك أن الإسلام أيضا وقع في شباك التزوير التاريخي، والتصرفات الفردية، التي جعلته مثارا للشكوك أيضا فيما يتعلق بدموية الانتشار:
روى البخاري (4557) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ ، حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ
.
.
بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ) أحمد(4869)(صحيح الجامع2831(
ثم بدأت بالاستعانة بالنصوص التاريخية مستعينا بأشهر المراجع الإسلامية (تاريخ الطبري، الطبقات الكبرى لابن سعد، وابن كثير)، وأوردت كماً هائلاً من النصوص التي بينت العنف الذي مارسته جيوش المسلمين في عصور الخلفاء والتي مكنتهم من بسط سيطرتهم لتمتد فيما بين أصفهان في شرق إيران الي طرابلس ليبيا ، ففي سنة 14هـ فتحت دمشق وحمص وبعلبك و البصرة،وفي سنة 15هــ تمت فتوحات الأردن وانتصر العرب علي الروم في اليرموك ، وعلي الفرس في القادسية ، وفي سنة 16هــ تمت فتوحات الأهواز والمدائن والانتصار في جلولاء وهزيمة الإمبراطور الفارسي يزدجر وهروبه ، ثم فتوحات تكريت شمال العراق ، ثم تسلم عمر بن العاص بيت المقدس ، و فتوحات قنسرين وحلب وأنطاكية ومنسج وسروج وقريقساء ، وفي سنة 18هــ تمت فتوحات جندباسبور وجلوان و الرهاد وسميساء وحران ونصيبين والموصل والجزيرة فيما بين العراق وسوريا، وفي سنة 19هــ فتوحات قيسارية ، وفي سنة 20هــ فتحوا مصر غربا ، وفي سنة 21هــ فتح الإسكندرية ، ثم نهاوند في إيران -الفتح الذي جلب فيروز المجوسي قاتل عمر-، وفتح برقة في ليبيا ، وفي سنة22 هــ فتح اذريبجان والدنيور وماسبذان وهمذان والري وعسكر وقومس في أواسط آسيا، وكنت أرفق بكل حيادية أمثلة على قسوة هذه الفتوحات، وما سفكه المسلمون فيها من دماء أبرياء استيقظوا على جيش يخيرهم بين الإكراه على الدين أو القتل أو أن تعيش في أرضك كمواطن من الدرجة الثانية ! وما سبوه من نساء وغلمان ونهبوه من ثروات بحد السيف لا غيره، وكنت أورد أمثلة على هذه الوقائع من بطون الكتب الثلاث التي يستقي معظم المسلمون علومهم منها (الطبري، ابن كثير، ابن سعد)، وحين شعرت برهبة الصمت الذي يحيط بي، وأنهم على وشك الطعن والرد على كل ما قلت، و أدركت حجم ما قلت بدأت أشك أنني سأخرج من هذه الجلسة سالماً وكان الصمت الذي لف المجلس كصمت يسبق عاصفة لا تبقي شيء، والحقيقة أني لم أكن قد بلغت غايتي وهي توضيح فكرة براءة النصوص القرآني من كل هذه الفتوحات والوقائع الدموية وكنت أعرف أني وصلت لنقطة حساسة جدا وعلي أن أستدرك حديثي سريعا للوصول إلى مقصدي النهائي بأن هذه الأحداث لم تمت للتشريع الإسلامي الصحيح بصلة وآثرت ألا أستطرد أكثر في ذكر شواهد على وحشية الفتوحات الإسلامية كي لا أثير الحاضرين أكثر من ذلك، لكني تفاجأت أن ما خرق صمت تلك اللحظات الثقيلة هو آخر ما توقعت سماعه اذ أخذوا يرددوا بتتالي شبه منظم: الله يفتح عليك يا شيخ .. بارك الله فيك !!!!!!!!
بحق الله !! كنت أظن أني على بعد لحظات من أن يقوم أحدهم ليبطش بي، لكن على عكس ما توقعت بدأ أحدهم الحديث بالإطراء على ما قلت وأن البعض يحاول (مسخ) هذا الدين بالقول أنه انتشر باللين ليلغي عقيدة الجهاد، إن هذا الدين انتشر بالسيف ويجب الاعتزاز بذلك، وجزا الله الأخ – أنا- على هذه الإيضاحات التي يحاول أعداء وهذا الدين والانهزاميون من أبناءه إخفاءها وأردف بأن كتب المستشرقين التي تتحدث عن سماحة الإسلام هدفها إيقاع الجيل العاصر بفخ البعد عن الجهاد !
أذكر أني لم أتمالك نفسي لأيام لشدة ما ضحكت كلما تذكرت هذه اللحظات، يبدو أن الجزء الذي لم أقله من حديثي والذي كنت أعتقد أنه الجزء الذي سينال رضاهم هو تماما الجزء الذي يرفضوه .. يبدو أنني أعدت لهم كثير مما كادوا أن يفقدوه.
وهنا تبرز خصوصية الموضوع في المنظور الإسلامي بأن البعض لا يحاول مطلقاً نفي هذه الشبهات، بل يؤكد صحتها وصواب اتصالها بالمنهج الصحيح، والبعض الآخر يحاول إنكارها بالكامل والتغاضي أن ذلك ورد في أمهات كتبنا وهذا هو الصنف الذي يغيظني، إذ أنني أحفظ للفئة الأولى صدقها مع الذات ومع النص أصابوا أم أخطئوا، الصنف الثالث يدرك هذه الحقائق جيدا ويدرك أنها أخطاء لكن يحاول تبريرها بأساليب فاضحة في ضعفها بأنها كانت تحرير لتلك الشعوب من ظلم حكامها متناسياً ما فعله المسلمون بأقباط مصر الذين ساعدوهم فعلا ضد الروم، والصنف الرابع من آثر الصدق مع الذات، والإقرار بهذه التعديات وتبرئة العقيدة الصحيحة منها إذ يمكن إحصاء 200 دليل قرآني على عدم مشروعيتها .
على أي حال، هذا العرض الموجز ليس سوى نفي لصلة هذه الدراسة بهذا ا لموضوع إذ أن الأقوال تطول في هذا الموضوع ولكثرة ما كُتب فيه أصبح أقل تأثيرا ووقعا على العامة الذين بدأ تقديسهم للنصوص يسقط بتناقضها، لكني حاولت بإيجاز تحقيق هدفي الأوحد أن هذا الانتشار بالمجمل كان مرده السيف وليس لأحد التفاضل على أحد سيما أتباع العهد الجديد الذي يحاول كثيرون الترويج لتسامحه، أما إذا أردت عزيزي القارئ أن تعرف عن العقائد التي لم تشهر السيف يوماً فاعلم أنها انحسرت و اندثرت حتى لا تكاد تجد لها ذكراً على هوامش كتب التاريخ !
إذن، وبالعودة للموضوع الأساسي للبحث، كنت أمام خيارين، إما أن تكون المسيحية متصلة أصيلة ولو بالحد الأدنى وليس كم يتم تصويرها في ذا الدراسات والتحقيقات التي تنشر مؤخرا وتبين حجم التدليس فيها والاقتباسات الاسطورية المروعة، أو أنها بهذا الضعف وهناك أمر مريب أبعد من السيف حتّى يعلل انتشارها الواسع رغم ضعف أصولها وأصالتها، وأوفر على القارئ هذه الحيرة التي أرقتني لأبدأ حيث سأنتهي بأن الغموض والحلقة المفقودة يدور حول انتشارها الذي تم لاعتبارات بعيدة تماما عن كونها ديانة أو منظومة عقدية وتشريعية وليس لانتشارها أي علاقة بجوهرها أو ذاتها أو تقبل الناس لمفاهيمها، أليس من المثير للضحك أن ما يبدو للولهة الأولى أكبر دليل على قوة وسطوة المسيحية تحقق لاعتبارات بعيدة كل البعد عما نعتقده، أوحتى ما قد يحاول البعض تعزية نفسه به من هذا الانتشار الواسع الذي لم يكن ليتم لولا سماحة وسماوية أحكام الدين المسيحي الذي حاز على قلوب هذه الملايين !
وما الذي ترمي إليه هذه الدراسة؟ التي اعترفت بشكل صريح أنها عالقة بذهني منذ عام وأنجزتها بوقت قياسي لأستنزف ساعاتي كاملة وأكف عن التفكير بأحد أخطائي الذي يلاحقني لحظة بلحظة، هذا ما ستجده عزيزي القارئ في نهاية هذه الدراسة –المشئومة - .
يرى كثير من الدارسين والباحثين أن انتشار المسيحية -يتقاسم مجده- رجلان هم: القديس بولس –يُعرف بالرسول- الذي أرسى الأصول اللاهوتية الراسخة في المسيحية من عبادة المسيح وغيرها والمبشر لها في القرن الميلادي الأول والذي سأقوم بتفصيله لاحقاً في هذه الدراسة، والرجل الثاني –الأول تاريخياً- هو المسيح بدرجة أقل لكون -وجوده على الأرض- انتهى في شبابه ولم يحاول نشر ديانته على أبعد مساحات جغرافية ممكنة، بل ارتكزت دعوته على جوانب محددة من الأخلاق والسلام والتعايش وحقوق الفقراء وحرمة الدم والتعدي على الغير، لكن حين بدأت باستعراض تاريخ المسيحية منذ ظهورها حتى يومنا هذا، كنت أمام العديد من الشخصيات التي لم تكن في باطنها أو حتى في ظاهرها في بعض الأحيان، تؤمن بتعاليم هذا الدين، وأن المسيح صعد للسماء والمسيحية لا تزال مجرد طائفة كافرة صغيرة منشقة عن اليهودية ولم تكن حتى ترقى لمستوى أن تكون دينا جديدا، لذا فمن حيث الانتشار واللاهوت والتشريع لا يعد المسيح عنصراً فاعلا، فهو أوجد هذه الدعوة وأوقد شرارتها الأولى في فترة قصيرة لا تتجاوز 3 أعوام من عمر دعوته بل إن أغرب ما قد يلاقيه الباحث أن حياة المسيح قبل نزول الدعوة شبه مفقودة فتجده رضيعاً يتكلم في المهد كما ذكر القرآن ثم يحمل العهد الجديد راية سيرته وهو شاباً في العقد الثالث أو الرابع، إن كل هذا اللغط التاريخي يدور حول 3 أعوام فقط من عمر المسيح التي قضاها في الدعوة في حين لم بنقل التاريخ سوى النذر اليسير من حياة نوح مثلا والذي يروى انه مكث في قومه تسع قرون !
المسيحية التي نعرفها اليوم تشريعاً وكتباً وتاريخاً وانتشاراً هي خلاصة أعمال شخصين لا يملك أحد القدرة على إنكار دورهم في نشر هذه الديانة، وكلا الشخصيتين تشتركان في قصة واحدة وتفصلهما 3 قرون تقريباً .. هكذا انتشرت .....
سياسات قسطنطين
قسطنطين الأكبر أو الأول، اسم أبيه قسطنطيوس وأمه هيلانه، وكان أبوه ملكًا على بيزنطة في حين كان مكسيميانوس ملكًا على روما، أما دقلديانوس فكان ملكاً على إنطاكية ومصر، وهؤلاء الأباطرة الثلاثة تقاسموا حكم الإمبراطورية الرومانية بنفس الوقت، وكان أبوه قسطنطيوس وثنيًا، إلا أنه كان صالحًا محباً للخير رحومًا شفوقًا. واتفق أنه مضى إلى الرُها وهناك رأى هيلانة وأعجب بها فتزوجها، وكانت مسيحية فحملت منه بقسطنطين هذا. ثم تركها في الرها وعاد إلى بيزنطية، فولدت قسطنطين وربّته تربية حسنة وأدّبته بكل أدب، وكانت تبث في قلبه الرحمة والشفقة على المسيحيين. ولكنها لم تجسر أن تعمّده ولا تُعلِمَه أنها مسيحية، فكبر وأصبح فارسًا وذهب إلى أبيه الذي فرح به لما رأى فيه الحكمة والمعرفة والفروسية. صار شريكًا في والده في الإمبراطورية.
ويعتبر حكم قسطنطين نقطة تحول في تاريخ المسيحية ليس لكونه أول إمبراطور روماني مسيحي فحسب بل لجملة السياسات التي قام به ورفع من خلالها شأن الكنيسة، حيث أصدر مرسوم ميلانو الذي أعلن فيه إلغاء العقوبات المفروضة على من يعتنق معلنا بذلك انتهاء حقبة طويلة من الاضطهاد الوثني السياسي للمسيحية، والذي قضى أيضاُ أيضاً بإعادة أملاك الكنيسة التي كان قد صادرها الأباطرة أيام اضطهاد المسيحية وقرر أن يجعل يوم الأحد يوم عبادة. ولقد رافق مرسوم ميلانو اتجاه آخر نحو اضطهاد اليهود الذي ظل ساري المفعول في أوروبا لعدة قرون تلت. بل أصبح اعتناق المسيحية أحد أسباب الارتقاء بالمناصب الحكومية في الدولة، وفي عصره قويت الكنيسة وبنيت كنيستا القيامة والمهد، وعام 324 أعلن قراره بتحويل بيزنطة إلى روما الجديدة وقد قام عام 330م بإعلانها عاصمة رسمية للإمبراطورية الرومانية، كانت القسطنطينية أول مدينة مسيحية في العالم ولم يسمح ببناء معابد وثنية فيها .
ولعل من أهم ما قام به قسطنطين برأيي بعيدا عن دوره في انتشار المسيحية فهو تأسيسه التاريخي لمجمع نيقيه –راجع تدوينة الفجر لأول مرة- لمعالجة الانقسامات الداخلية في الكنيسة وقد عمل المجمع الذي كان قسطنطين عضواً فعالاً من أعضائه، على إنشاء عقيدة نيقية التي أصبحت فيما بعد المذهب الأرثوذكسي للكنيسة.
بدأت بسؤال بعض الباحثين والمطلعين كييف أصبح قسطنطين مسيحياً ولم يسبقه لذلك أي إمبراطور روماني، وكنت أتلقى إجابة موحدة أعرفها مسبقاً وهو تأثير أمه هيلانة التي ربته وكانت مسيحية وبثت فيه تعاليمها منذ طفولته، لكني كنت أبحث عما هو أبعد من ذلك إذ أنني وجدت غضاضة في تصديق أن قسطنطين الذي تزوج (مرتين) : أولاهما بمنيرفينا Minervina التي رزق منها بابنه كرسبس Cripus؛ والثانية بفوستا Fausta التي رزق منها بثلاثة بنين وثلاث بنات وأمر بقُتل ابنه كرسبس ؛ وبعد قليل من ذلك الوقت أمر بإعدام فوستا زوجته، لم أكن اصدق أنه يعتنق المسيحية بتعاليمها السمحة، وكنت أرى إن كل ما أظهره التاريخ على أنها أدلة على إخلاص الإمبراطور للمسيحية ونِشأته على تعاليمها ورغبته في نشرها لم تكن سوى إصلاحات سياسية وحدت الدولة وحققت له مكاسب سياسية بحتة، بل أن تأسيسه لمجمع نيقيه أكبر دليل على أهدافه السياسية ويذكر المؤرخون أنه كان على رأس هذه المجلس ومشاركاً فعالا فيه دون أن يلفتوا النظر أن كل مشاركاته كانت تدب في مصلحة الدولة والتي لا أنكر يمكن أن تتلاقى مع المصلحة الدينية أحياناً، لكن ستجد إجماعا على رفض الإمبراطور أن يعمد حيث أنه أنه لم ينل العماد إلا في السنة الأخيرة من حياته على يدي الأسقف الأريوسي يوسابيوس النيقوميدي، ويقال انه عمد بعد موته !
لم أكن لأصدق أن هذا الإمبراطور مخلص للمسيحية وتشبع تعاليمها منذ طفولته، وكانت الشكوك حول ما قام به للكنيسة تزداد بالنسبة لي من حيث دوافعها وارتباطاتها وتلاقيها مع دوافع سياسية، حتى اصطدمت بما يرويه وسابيوس بمفيليوس أو يوسابيوس القيصري Eusebius of Caesarea أب التأريخ الكنسي ومرجعها الأول، ومؤلف كتاب التاريخ الكنسي The Ecclesiastical، وكذلك كتاب حياة قسطنطين Vita Constantini فيقول :
" بعد وفاة أبيه تَسَّلم قسطنطين المملكة ونشر العدل والإنصاف ومنع المظالم، فخضع الكل له وأحبّوه، ووصل عدله إلى سائر البلاد، فأرسل إليه أكابر روما طالبين أن ينقذهم من ظلم مكسيميانوس – أحد الأباطرة الثلاثة سالفي الذكر- فزحف بجنده إلى إنقاذهم. وفى أثناء الحرب رأى في السماء في نصف النهار صليبًا مكوّنًا من كواكب مكتوبًا عليه باليونانية الذي تفسيره "بهذا –أي بالصليب- تغلب"، وكان ضياؤه يشع أكثر من نور الشمس، فأراه لوزرائه وكبراء مملكته فقرؤوا ما هو مكتوب ولم يًدركوا السبب الموجب لظهوره.
وفى تلك الليلة ظهر له ملاك الرب في رؤيا وقال له: "اعمل مثال العلامة التي رأيتها –أي الصليب-وبها تغلب أعداءك". ففي الصباح جهّز علمًا كبيرًا ورسم عليه علامة الصليب، كما رسمها أيضًا على جميع الأسلحة، واشتبك مع مكسيميانوس في حرب دارت رحاها على الأخير الذي ارتد هاربًا، وعند عبوره جسر نهر التيبر سقط به فهلك هو وأغلب جنوده. ودخل قسطنطين رومه فاستقبله أهلها بالفرح والتهليل، وكان شعراؤها يمدحون الصليب وينعتونه بمخلِّص مدينتهم ثم عيّدوا للصليب سبعة أيام، وأصبح قسطنطين ملكًا على الشرق والغرب"
لاحظ عزيزي القارئ أن هذه الحادثة وقعت في بديات حكم قسطنطين وبعدها بدأت خدماته للكنيسة وتعد هذه الحادثة لدى عدد كبير من المؤرخين هي بداية اعتناق أول إمبراطور روماني للمسيحية وبدأت بعد ذلك انجازاته سالفة الذكر للمسيحية..
إذن أحد أبرز الشخصيات التي كان لها الدور الأكبر في المسيحية لم يكن ليعتنق المسيحية لولا معجزة خارقة حدثت له، تذكروا ذلك جيدا !!!
دبلوماسية القديس بولس
بولس رسول الأمم العظيم، كان اسمه العبري شاول الطرسوسي، هو أحد ألمع شخصيات الجيل المسيحي الأول وينظر إليه البعض على أنه ثاني أهم شخصية في تاريخ المسيحية بعد المسيح نفسه بل وينظر إليه عدد كبير من مفكري وفلاسفة المسيحية أنه الشخصية الأولى وأنه هو من أقام المسيحية وحولها من طائفة صغيرة تشكل فئة يهودية ضالة إلى ديانة مستقلة، وحقيقة وهو أول من أرسى عقيدة ألوهية المسيح وهو من كتب 14 سفراً من أسفار العهد الجديد،وأصبح لاهوت بولس منبعاً للعقائد المسيحية ، أعطى له اللاهوتيون المسيحيون تفسيرات عديدة، فقد اعتمدت عليه الكنيسة منذ العصور الأولى وإليه استندت الفرق المسيحية المختلفة لاحقاً؛ لدعم معتقداتها، فمثلاً: اعتمد مارتن لوثر على رسالة بولس إلى أهل روما؛ ليثبت مبدأه حول الخلاص بالإيمان فقط بدون الأعمال. وبشكل عام فإن فكر بولس حول حياة وموت وقيامة المسيح، وحول كون الكنيسة هي جسد المسيح السري، وتعليمه عن الناموس والنعمة، ونظرته حول التبرير قد ساهمت بشكل قاطع بإعطاء الإيمان المسيحي شكله المعروف.
يعرف من قبل المسيحيين برسول الأمم حيث يعتبروه من أبرز من بشر بهذه الديانة في آسيا الصغرى وأوروبا، ساهم التأثير الذي خلفه بولس في المسيحية بجعله واحداً من أكبر القادة الدينيين في العالم على مر العصور.احتفل العالم المسيحي بين 29حزيران 2008 و 29 حزيران 2009 باليبوبيل الألفي الثاني على مولده في طرسوس (أسية الصغرى)، ومن الجدير بالذكر أن منهج بولس الدعوي كان أحد تطلعاتي البحثية التي لم أتمها، ليس فقط لأنه موضوع فلسفي بحت بعيد كل البعد عن الأديان والتاريخ بل لأني لم أجد التفاصيل الكافية على إشارات تاريخية متفرقة لفتتني حين قمت بجمعها كيف أن بولس كان يتبع منهج دعوي قائم على دبلوماسية تقديم الدين الجديد بما لا يعارض تماما حساسية الدين الذي ينوي انتزاع الناس منه !!
ولد بولس في مدينة طرسوس في كيليكية الواقعة في آسيا الصغرى (تركيا اليوم)، في فترة محتملة غير مؤكدة بين السنة الخامسة والعاشرة للميلاد- أي أنه عاصر المسيح- كان اسمه عند الولادة شاول وترعرع في كنف أسرة يهودية منتمية لسبط بنيامين بحسب شهادته في رسالته إلى أهل روما ، كما أنه كان أيضاً مواطناً رومانياً، عمل كصانع خيم ، وكان مهتماً بدراسة الشريعة اليهودية حيث انتقل إلى أورشليم ليتتلمذ على يد غامالائيل الفريسي أحد أشهر المعلمين اليهود في ذلك الزمن.
ويمكن تتبع حياة بولس من كتاب أعمال الرسل كما يلي: .
بعد أن أصبح شاول نفسه متحمساً ذا ميول متطرفة عمل على محاربة المسيحية الناشئة على أنها فرقة يهودية ضالة تهدد الديانة اليهودية الرسمية، فنرى أول ظهور له في سفر أعمال الرسل في الإصحاح السابع حيث كان يراقب الشماس استفانوس –يعد أول شهيد في المسيحية، رجمه اليهود بعد أن قام بدعوتهم لاعتناق المسيحية- وهو يرجم حتى الموت بينما كان بولس يحرس هو ثياب الراجمين وهو راضٍ بما يقومون به. عقب إعدام إستفانوس شن اليهود حملة اضطهاد بحق كنيسة أورشليم متسببين في تشتت المسيحيين في كل مكان ، فقام بولس بعد أن نال موافقة الكهنة بتتبع المسيحيين (الذين كانوا يسمون بأناس الطريق) حتى مدينة دمشق ليسوقهم موثقين إلى أورشليم.
بعد أن أصبح شاول نفسه متحمساً ذا ميول متطرفة عمل على محاربة المسيحية الناشئة على أنها فرقة يهودية ضالة تهدد الديانة اليهودية الرسمية، فنرى أول ظهور له في سفر أعمال الرسل في الإصحاح السابع حيث كان يراقب الشماس استفانوس –يعد أول شهيد في المسيحية، رجمه اليهود بعد أن قام بدعوتهم لاعتناق المسيحية- وهو يرجم حتى الموت بينما كان بولس يحرس هو ثياب الراجمين وهو راضٍ بما يقومون به. عقب إعدام إستفانوس شن اليهود حملة اضطهاد بحق كنيسة أورشليم متسببين في تشتت المسيحيين في كل مكان ، فقام بولس بعد أن نال موافقة الكهنة بتتبع المسيحيين (الذين كانوا يسمون بأناس الطريق) حتى مدينة دمشق ليسوقهم موثقين إلى أورشليم.
أي أنه كان من أكبر المعادين للمسيحية، وشارك شخصياً في تعذيب واضطهاد أتباع المسيح الذين اتهموا بالزندقة والخروج عن اليهودية، وكان من أشد المتحمسين لإبادة وقمع هذه الفتنة –أي الديانة المسيحية- وعقائدها الباطلة .
عرفنا كيف تحول إمبراطور وثني لأكبر مناصر للمسيحية وأبرز من يعزى إليهم انتشارها، فكيف تحول إذن بولس من أكبر المعادين للمسيحية إلى أعظم شخصياتها والذي يكاد فضله عليها يفوق فضل المسيح الذي لم تزد مدة دعوته عن 3 أعوام .
في طريقه إلى دمشق وبحسب رواية العهد الجديد حصلت رؤيا لشاول – بولس بعد ذلك- كانت سبباً في تغير حياته، حيث أعلن الله له عن ابنه بحسب ما قاله هو في رسالته ، وبشكل أكثر تحديداً فقد قال بولس بأنه رأى (الرب يسوع). وفي سفر أعمال الرسل يتحدث الإصحاح التاسع عن تلك الرؤيا، فيصفها على النحو الآتي " وفي ذهابهِ حدث أنهُ اقترب إِلى دمشق فبغتةً أبرق حوله نورٌ من السماء"، بعد ذلك حصل حوار بينه وبين المسيح اقتنع شاول على إثره بأن يسوع الناصري هو المسيح الموعود. يتكرر ذكر هذه الرؤيا في سفر أعمال الرسل مع بعض الاختلافات الطفيفة ...
رؤيـــا أخــرى!!! ...تذكـــروا هذا أيضاً.
لن تجد خلافاً بأن الفضل بانتشار المسيحية عبر التاريخ يرجع بلا منازع لهذين الشخصين، وكلاهما لم يكن ليعتنق المسيحية لولا وقوع ما وقع لهما ... ما يحيرني بحق أن القديس بولس الذي عُرف بمعاداته للمسيحية والمسيح والذي إذ انطلقنا من مفاهيم الأديان التي ترسل الآخر دائما إلى النار، فان القديس بولس سيكون على رأس الأفواج التي ستلقى في جهنم لولا أن رأي معجزة كان يمكن –بل حتماً- لو تجلّت لغيره لأنقذت الملايين أيضا من جهنم هذه .... ولاحظ أننا نتحدث عن جهنم وجحيم أبدي وأشياء تحفظوها جيداًن وليس عن عدة شهور بالسجن.!
ألا يعني ذلك أن الأديان تقيم حجتها على الناس بالمعجزات المادية التي تعتبر خارقة للبشر في نقطة معينة من الزمن، فبعض معجزات الأمس بتنا اليوم بالعلم نعرف لها سبيلا ، هل يعني ذلك أن الحجة لم تقم على الملايين ممن لم يشهدوا يوماُ أي شيء مماثل وكل ما عاشوه هو خلافات تشريعية جلية في عالم لا يبالي بأحد، و عليهم أن يؤمنوا بهذه الشريعة أو تلك بمجرد التبليغ بل وحتى أن التشريع هذه الأيام يبدو أقل حفظاً و متانة ومصداقية إذ باتت تفصلنا قرون عن فجر هذه العقائد، ومجرد التشكيك يعتبر خروج عن الإيمان والدين، أجد نفسي للمرة الأولى بعد أعوام من دراسة اللاهوت المقارن أمام شيء مشترك، كيف يصادر (رجال الدين) بجميع الأديان اليوم حق البعض في التشكيك في جزئيات الأديان على الأقل وبعض الأحكام التي تثار من وقت لآخر، كيف على إنسان القرن 21 أن يؤمن دون أن يرى أي معجزة مادية إذا كان الرعيل الأول في كل الأديان كفر بالديانة ككل ثم آمن بمعجزات مادية وليس بمجرد أن أعجبتهم حكمة التشريع أو الأحكام، ولولا هذه المعجزات لكان هؤلاء القديسون من ألد أعداء الديانة التي قدسوا فيما بعد فيها، أو أدخلوا فيها جنات النعيم !! إن كان أنبياء الله أنفسهم قد شككوا ولم تطمئن قلوبهم إلا بعد أن رأوا معجزات مادية.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } البقرة260
ربما يحاول البعض الاستماتة لرد هذه الحقيقة فيقول أن إبراهيم طلب المعجزة لقومه، حينها فقط سألعن ميكانيكيات العقل اللاواعي التي تشتعل في عقولهم وتدفعهم للافتراء على اللغة والنص كأن ياء الملكية في "قلبي" أصبحت ياء تسمى ياء القومية، ولن يكل هؤلاء حتى يجدوا (مدخلاً) لغوياُ يُوجِد لها (مخرجاً)، ولنقل أنني الجاهل الوحيد الذي لم يسمع بياء تسمى ياء القومية والتي تجعل قلبي تعني قلوب قومي، لكن الفكرة لم تزل قائمة لم ينكر إبراهيم على قومه حقهم في المعجزة المادية التي ترنو إليها عقولهم ولها فقط ترضخ، وليس للتشريع أياً كان لأن العقل البشري لا يمكن أن يدرك إعجاز التشريع وان كان معجزاً، ليس طعنا في التشريع بل طعنا في العقل البشري الذي لا يدرك إعجاز التشريع وذلك محض مجاراة ليس إلا، فلا يمكن أن تكون (قلبي) بمعنى (قلوب قومي)، بل المحير أني حاولت فعلا إقناع ذاتي بأنه لم يطلب ذلك نفسه ولم يكن هو يشكك لكنه لا زال قد عاش المعجزة المادية، فهو يتحدث إلى الله والله يجيبه !!
لماذا لا نخضع للحد الأدنى من المنطق، ونرضخ للنص ونقول أن النبي الذي وصفه الله بسورة النحل بأنه "أمة" - أي قدوة- كان يحاول أن يكون هو قومه، وأن يمنطق إعراضهم على انه إعراض عقلي وليس عنادي أو شهواني أو دنيوي محض، أو ربما حاول أن يؤنس وحدة أولئك الذين يعلم الله –وحده- صدق إعراضهم، وشوق عقولهم لليقين.
بكل الطرق فالفكرة لا تزال قائمة، إن الإعجاز التشريعي والتبليغ ليس حجة، ولا يقبله إلا ضعاف المعرفة – أو القلوب- وقد ساق أجيال كثيرة إلى أوهام موغلة في القدم، والشخصيات التي شكلت ركن من أركان الأديان آمنت بالمعجزة وليس للتشريع ثم انتهج العقل منهجه اللاواعي لتصويب الشريعة، فصار يدرك –أو حتى يوجِد- وجوه الإعجاز فيها .
كنت حتى عهد قريب أقول أن القوى العليا باختلاف تسميتها في العقائد والأديان لا تتدخل في شؤون البشر تدخلا مباشر كآلهة، أي أن الآلهة إذا أرادت أن تجعلك ثرياُ فإنها تهيأ لك الفرص لذلك بما يبدو مألوفاً مقبولا في الحياة البشرية كأن تيسر لك طريق مهنة مربحة أو دعني أقول بأن تستيقظ فتجد أنك ورثت أو كسبت مبلغاً من المال بطريقة أو بأخرى، ولا تتدخل بما يفوق عقول البشر كأن مثلاً تستيقظ من النوم فتجد بجانبك مبلغا من المال مع رسالة من السماء فهذا يعتبر تدخل الهي بأسلوب الهي كنت أقول بأنه لا يقع، وليس الموضوع ببساطة أنت تسأل وهي تجيب أو أن تكون على اتصال بالعالم الغيبي أو أن يتجلى لك هذا العالم تجليا حقيقياً، حتى أني حين كنت أطالع الميثولوجيا اليونانية وجدت أنه هذا هو قانون آلهة الأوليمب الأول أيضاً بأنهم لا يتدخلون كآلهة، لذا تجد أن تدخل الآلهة بشكل خارق هو الملهم الأول لمخيلة الشعوب بكتابة خرافاتها وأساطيرها وهذا ما يعرفه دارسو الأساطير حق المعرفة، وكنت أستدل على رأيي بعدم تجلي العالم الغيبي بأنه التفسير الحقيقي لكلمة الله المؤجلة و الاختلاف الذي أراده الله وأجل تجلي هذا العالم ليوم محدد:
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } يونس19
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } هود118
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } يونس99
إن العالم الغيبي لا يتجلى لذا نحن نختلف بحسب تعطش عقولنا للمادة أو تراكمات تجاربنا الحياتية، وكنت أجد بذلك مخرجاً كريماً لعدد كبير من الثنائيات الجدلية كالتخيير والتسيير والقضاء والقدر والبلاء والابتلاء، لكن خلاصتي الفكرية هذه وبكل مزاياها تصطدم بترسانة من المعجزات التي تحدثت عنها الأديان وجعلتني بحاجة للتفكير بمخرج آخر أو علاقة أخرى بين العالمين فوجدت أن أواجه حقيقة أن الأديان أقامت الحجة بالمعجزة وتجلي القوى السماوية بطبيعتها الفوقية، وقد يتوثب أحدهم ليعد لي قصص وشخصيات آمنت بدون ذلك، فذلك ما يحدث منذ أن بدأ ما أسميه الجفاء السماوي للأرض بانقطاع الأنبياء والوحي منذ 14 قرناً بعد أن شبت البشرية على ظهر العلم، لكن يا صديقي لو أن شخصاً واحدا عبر التاريخ أعطاه الله الحق بأنك يشكك ويطلب معجزة مادية وكفلت له السماء هذا المعجزة فآمن فهذا كافي ليعطي الحجة لكل شخص في العالم ليبرر عدم إيمانه أو خطأ اختياره بأنه طالب بمعجزة ولم ينلها، فكيف ونحن نعرف يقيناً أن شخصيات حساسة وأقوام منحت هذه المعجزة.
ألن يصرخ أحدهم من قعر النار: أنا لم أرى ما يروض عقلي الذي خلق على الشك فيما لم يشهد، بل وإن المتتبع لسير الرسل يجد عشرات من العامة ممن أمّوا هؤلاء الرسول يطلبون أدلة على دعوتهم وصرفت لهم أدلة مادية وليس تشريعية، بل أن كل الأقوام والأمم التي أهلكت لم تهلك بعد أن بلغتهم الدعوة وكذبوا بها، بل بعد أن جحدوا حتى بالمعجزة المادية الخارقة للطبيعة التي أرسلت لهم،وليس لأحد أن يقول أن قصص هؤلاء الأقوام هي العبرة، هذه القصص تاريخ، وكما رأوا وسمعوا فإنسان القرن 21 أولى بعد هذا الجفاء السماوي الطويل !!
إن الإنسان ولد على الشك، وخشية ما يجهل، والإيمان بما يروض عقله الثائر وليس لعقله القاصر القدرة على تمييز الحق والباطل بين الشرائع، ومن كتب نصف أناجيل المسيحية ورجلها الألمع، ومن أفنى حياته في إرساء تشريعاتها، والتبشير لها، ودعوة الناس لاعتناقها، لم يكن هو نفسه ليؤمن بدعوة مماثلة ولم ترق يوما له تشريعاتها ولم تكن قصة إيمانه بأنه رأى بها العدل الحق أو آمن بتشريعاتها حين سمع عنها لأنه أدرك أن هذه شريعة الرب المنزه، بل آمن بعد معجزة مادية، بعد ذلك بميكانيكية دفاعية لاواعية ينتهجها العقل البشري يصبح يرى كل شيء حق في هذا الدين الواعد ويفقد العقل القدرة على التفكير المحايد الموضوعي بعد أن فتنت المعجزة المادية صوابه، وأشعلت عواطفه وغيبت تفكيره العقلاني ، لو أن هناك شريعة معجزة بفقهها وتعليماتها بحيث يدرك العقل البشري أن هذه تشريعات ربانية منزهة لما اختلفت البشر كل هذا الاختلاف .
إن علاقة حب فاشلة قد تنجب قسيساً يحيي ديناً، أو مفكرا ثائراً يتسلط على دين آخر، والتاريخ سيكتب عن هذا الشخص أيا كانت الصورة التي سيتخذها وعن أثره الدقيق أو الحساس الذي سيمتد حتى عصرنا أو عصور لاحقة ، ولا أحد سيذكر أن كل هذا التأثير التاريخي كان بسبب علاقة حب فاشلة أو ربما هزيمة في لعبة شطرنج، إن التاريخ ليس أقدس ولا أعظم من أسذج قصصنا اليومية، التي يمكن بطريقة ما أن تشق طريقها لتصبح يوماً جزء حساس من حياة جيل لاحق.
إن وسائل التأثير ودغدغة المشاعر هي السلاح الأكثر فتكاً الذي أتاحه الله للبشر عبر التاريخ، ولن تأتي البشرية يوماً بسلاح أكثر فتكاً، وليس يعي ذلك إلا أولئك الذين يمتلكون هذا السلاح ويدركون كيف يتقدم وكيف يعمل، والمعرفة هي الدرع الواقي الوحيد ضد من يحاولون أن يسخروا منك ومن قدرتك على التفكير الخلّاق، الحقيقة المرة أن كل ما تعيش عليه من عادات ومقدسات وأعراف وتقاليد لم تكن يوماً نتاج لعملياتك العقلية الخاصة، بل هي فقط تقبع في مناطق محرمة من عقلك، وإن كان ثمة ما هو أخطر من ذلك فهو أنك لا تريد أن تعرف، تريد أن تصلي تتعلم وتعمل وتتزوج وتنجب وتهرم وتموت وتبعث وتعيش في الجنان الأبدية، اذا سألتني بحق ماذا أعرف عن الآلهة سأقول لك انه لا تريدك أن تفعل ذلك !
لكن أكثر ما يخيفني في عقيدة المعجزات وإقرار الأديان لها، ليس فقط قدرة الأمم على الاحتجاج بها، بل فكرة أن نفس المبدأ كان يمكن أن يؤدي بنا إلى عبادة العلم لا أكثر، فمثلاً من أشهر أمثلة المعجزات الدينية شفاء بعض الأمراض التي لا تشفى، وهذا يجعل أولئك الذين اكتشفوا أدوية لأمراض فتاكة يمتلكون القدرة على الادعاء بأنهم من السماء ويقدموا لنا ذلك كمعجزة، ربما ستسخر من ذلك لأن ذلك قدم لك مرفقا بعشرات المعادلات والقوانين العلمية لكن ثق بي كان يمكن أن تستغل كمعجزة، إن جهاز يمكنك من التواصل مع شخص على الطرف الآخر من الكرة الأرضية صوتا وصورة هو معجزة لقدماء المصريين و سيُعبد مخترعه، دولتان من دول العالم اليوم تمتلكان القوة على إبادة كل مظاهر الحياة على الكرة الأرضية خلال دقائق بأسلحة نووية وهيدروجينية ومناخية أو ما شئت، ألا تعتقد أن ذلك كافيا لتأليه مالك هذا السلاح مثلاُ إذا استخدم في العصر اليوناني دون أن يقدم كعلم، دعني أبسط ذلك لو أن أحد العلماء اللوامع اليوم ممن لهم باع طويل في اختراعات عسكرية وعلمية مختلفة أرسل عبر الزمن إلى حضارة موغلة في القدم ألم يكن ليقدس كآلهة لو شاء ذلك واستخدم العلم لفتنة الناس، سترى ذلك ممكنا لأنك تعرف أن الحضارات الأولى كانت تقوم على أساطير ساذجة وسطحية، احذر يا صديقي فالدهر هو الدهر، والمعجزة ليست سوى شيء خارق في لحظة معينة من الزمن، وهم لك ما أنت للأجيال اللاحقة، وإذا ذهبنا لأبعد من ذلك ففكرة التقدم العلمي عبر الزمن يمكن أن تقع أيضا عبر المكان، ففي عصور غابرة ولصعوبة التواصل واحتكار العلم كان يمكن لشخص أن يحمل علماً من مكان لمكان ويفاخر به الناس ويفتنهم عن دينهم !
إن الفكر والأدب طالما كانا رفيقين شرسين عنيدين يتسلطان على عقول الأمم، وكل العقائد والأفكار يعلو شانها إذا قُيد لها من يحملها فكرا ومن يحملها أدبا في ذات الوقت، فذلك هو العقار الأكثر فتكاً للتنظير لأي حركة فكرية، فمثلاُ قد مثل لينين وماركس وفردريك انجلز الثلاثي الفكري الذي وضع ومثل الشق الفكري للاشتراكية، في حين مثل مكسيم جوركي وكثيرون غيره الاشتراكية أدباً ولغة، ويشهد للأمة العربية أنها أمة أدب ولازالت رغم انحطاطها العلمي تبدع أساليب وألوانا أدبية وتنجب أدباء يصعدون بكل سهولة للعالمية، لكن وبقدر اعتدادي بهذا الإرث والوجه العربي المشرق يحزني أن أدبنا يمعن في انسلاخه عن أي فكر يليق بحجم هذا الأدب أو بالأحرى ليس هناك فكرة كي يمثلها الأدب أو ينسلخ عنها، ما أشرع النوافذ لكثير من المتسلقين أن يمتهنوا ما يشبه الكتابة و يبجلهم الناس كأدباء وشعراء ويدعون الإبداع وإيجاد فنون جديدة وهم في الحقيقة يغتصبون كان وأخواتها وبناتها، ولا يحملوا أدبا ولا فكرا، ويلصقون الكلمات والحروف بطرق غير مألوفة للناس فيفتنوا عقولهم، لكن هذه الأمة بدأت تضيق بأدبائها الحقيقيين، وهي تستحث أبناءها أن يصعدوا بالفكرة وفوق الفكرة ... وأنّى لها ذلك ما دامت الفكرة نظير الخطيئة !
ولان الأفكار تبدو فجة جدا حين تصدر عن أبناء هذه الأمة المغلوبة، انحزت فترة للأدب، ولعل أصيب إذا قلت أن الترجمة الأدبية للفكرة من هذه الدراسة تلخصها عدة مقاطع متفرقة في روايتي اليتيمة "نسمة" والتي لا تحمل من اسمها سوى حروفه لا معناه، أذكر من هذه المقاطع :
<< أجدادي سبوا عذارى فارس وساقوهن على مرأى من التاريخ إلى صحرائنا العطشى، وأنا سليلهم الذي ارتعش خجلاً على كتفك النحيل يوم ارتقيت بي درجات بابك الأول، أنا سليل الجهاضم والأشاقر والقسامل والفراهيد، وأنت سليلة الذين لم يجدوا غير القبلة وسيلة لحرق سعراتهم الحرارية، لكنك تنطقين الضاد مثلي، وأنا ألوك لساني ولا أٌسكن متتالين مثلك.
لغتي حرمتني الحق في المجاز، ووطني يظن نفسه فردوساً، وأهلي يعبدون التاريخ منذ خرجوا من المدينة إلى الكوفة ومن يومها يزعمون بأنهم يعبدون الله، وموتي خلفه موت، وحياتي موقوفة بالمطار بجواز سفر مزور، وأنا ابنك يا تشرين ـ فلا تخذلني يا تشرين، ولا تتركني للخريف والناس مفتونون بخلخال في قدم الأسطورة التي رتقها مؤرخ في بلاط الملك فصارت ديناً.
وفي شريط متسارع يعرضون أسعار النفط يا وطني، ولولا الحياء لعرضوا سعر دمي، ولولا أن الله قد ملأ رأسي بتلافيف دماغية لم أعرف وظيفتها بعد، ولولا أني لم أجد حتى اللحظة كتبة التاريخ، لأخبرتك : لماذا بكى المسيح وهو يشاهد نشرة الأخبار الاقتصادية التي تحدث عن قانون هوك الفيزيائي في الشد وعلاقته بمادية فورباخ التي اختلف بها أئمة الحنفية مع المعتزلة على أبواب بغداد بعدما أجمعوا على ردة الفيلسوف الألماني نيتشه لأنه أفتى بجواز تعدد الزوجات في السيخية بعدما سمع عن كاثوليكية ذهبت للاعتراف بأنها أجرت عملية تجميلية في أنفها خشية أن يتزوج عليها زوجها، فوشى بها الراهب إلى أحبار اليهود الذين اجتمعوا ليقرروا في شرعية العملية بعدما عرفوا أن الطبيب رجل!
كن غيرك مرة، وستعرف كم تعفنت في جسدك ولم تكن يوماً نفسك، كن لذاتك سيداً ولا تهادن هواك ولا عالي أناك، قف بباب عقلك ساهراً لم يكذب عليك أحدٌ .. سواك !!! >>
ختاماً،،
يعلم الشك أني حدقت فيه حتى كلت عيناه، حين أشاح الأخرون أبصارهم رهبة إلى قصر اليقين العاجي، وأعلم أني أدين للمعرفة وتدينني حتى لا يدري أحدنا أينا صاحب اليد العليا، لكني أعرف أني خرجت بما ولجت سوى متعة التجربة واختبار ارادة الذات.
يعلم الشك أني حدقت فيه حتى كلت عيناه، حين أشاح الأخرون أبصارهم رهبة إلى قصر اليقين العاجي، وأعلم أني أدين للمعرفة وتدينني حتى لا يدري أحدنا أينا صاحب اليد العليا، لكني أعرف أني خرجت بما ولجت سوى متعة التجربة واختبار ارادة الذات.
باســـــــــــــــــل
شباط - 2012
شباط - 2012