حلمتُ أمس أني أسير ليلاً في مدينة على جانبي شوارعها
أعمدة إنارة، فاستيقظت فزعاً من شر نفسي واستعذت بالله الذي أبحث عنه من الشيطان
الذي نسيت لشدة فزعي وقتها أني لا أؤمن بسلطانه، كيف لشخص يسكن في هذه البقعة
الجغرافية من العالم التي تسمى غزة أن يحلم بذلك! هذه المدينة، دوناً عن كل الكوكب
بلغت وحدها حد شاندراسيخار وانتهى عمرها الفيزيائي وستتحول لجرم نيوتروني قريباً،
المدينة التي جعلت جيلاً كامل يحاول نصفه الاندماج في مجتمع الـ ( خمسة خمسة خمسة وشقة
لحالها) - الأسعار بالدينار الأردني غير شامل ض. ق. م. - ونصفه الأخر يحلم ب (
بدلة عروس وبُبُّو) في مدينة تمضي
نحو حتفها ببركة الكهنوت وصولجان الطاغية، جيل كامل لم يمارس الحياة يوماً، ومتخم
بالوطنيات الزائفة، علموه الانتفاخ والانفجار فقط في وجه الخونة أمثالي ممن
يحملون إبرة يحاولون بها هتك انتفاخه الكاذب، اقتلوني يا أخوتي بقولي إن أهنت
قدسيتكم وعظمتكم فأنا أقل منكم ديناً ووطنيةً وثقافة وعديداً لكني أكثر صدقاً مع الذات
وربما أكثر تعاسة حتى !
الحديث عن التعاسة والاكتئاب دائماً ما يعيدني إلى
طفولتي المبكرة في المرحلة الابتدائية والحادثة التي جعلتني أشعر بالاكتئاب للمرة
الأولى حين كنت في الصف الثالث الابتدائي وسأل المعلم عن عكس كلمة
"مائل" فأجبت بثقة طفولية "مائل إلى الجهة الأخرى" فكاد المعلم
يسقط أرضاً من فرط الضحك ولازالت قهقهته تتردد إلى الآن في جمجمتي وصورته وهو يضع
يده على صدره لعمق ضحكته تلك، وأنا حائر بالذنب الذي ارتكبته، وبالجرم الذي اجترحته،
فتسببت هذه الحادثة بشعوري للمرة الأولى بمعنى الحزن، والغريب أني كبرت ولم تكبر
إجابتي بعد، ومن يومها ولا زال البحث مستمراً عن الإجابة غير المضحكة، وما زال
البحث مستمرا عن الله على طول خطوط الاحتكاك من دور العبادة إلى غرف العناية
المركزة ومن جبل الطور إلى صلوات البروليتاريا ومن منهاج الأول الابتدائي إلى
الكتب المقدسة وغير المقدسة ومن علوم الغرب الى جزيرة العرب -حيث ظهر آخر مرة
-.
ولا زال البحث مستمراً عن الإنسان كما لم يكن يوماً، إنسان
بقامة الرزنامة الحضارية السميكة، إنسان يستحق الوقوف على رماد كل الحضارات
المندثرة، إنسان يبني هويته لا يرثها، يغير هويته لا يزيفها، يتحقق من هويته لا ينافقها،
إنسان يرى في العالم كله عائلته التي يجتهد حيث هو في إعالتها، إنسان قبل أن يكون
كاهناً أو فلاحاً أو تاجراً أو ملكا أو سيداً أو قنا أو جندياً، إنسان لا يرى الله
دميته ينطق نيابة عنها ويصف غضبها ورضاها وفق ما يراه ويحتكرها فلا يسمح لأخوته
بامتلاكها، إنسان يرى الله في ضميره لا في نص تاريخي مزور يتسلط به على أعناق إخوته،
إنسان يؤمن بالنخبة الأجدر في الحكم دون أن يصدق أكذوبة التاريخ الكبرى أن الطبقية
نتاج حتمي لأي مجتمع إنساني يتفاوت أفراده في نشاطهم ومواهبهم، بل آثر الإصغاء
لنداء القديس يوحنا فم الذهب ( الملكية هي السرقة)، وآثر الانحياز لأجداده البسطاء
الطيبين قبل التاريخ وهم يجمعون فائض محاصيلهم ويقيمون احتفالاً يدعون فيه كل
المحيطين لاستهلاك هذا الفائض وفق ما تذكره عالمة الأنثروبولوجي مارغريت ميد عن
شعوب البابو التي سكنت اوقيانيا قبل التاريخ، ويؤيدها هبوهاوس وهيلر وغنسبرغ الذي
أكدوا على غياب التفاوت الاجتماعي في مجتمعات ما قبل التاريخ.
تخصلت شيئاٌ فشيئا من ثقل كابوس الأمس، ومارست طقوسي الصباحية كلها –جملة
سياقية لا أساس لها من الصحة وليس لدي طقوس صباحية ثابتة سوى تفقد مستوى الاكتئاب
في جسدي- ثم خرجت مسرعاً، وكان الجو صحواً .
باســـل