هربوا من الفصل الأخير في الحكاية قبل ان يصحو الكاتب،
دخلوا في الاستعارة كي لا يراهم، فتحوا الأبواب لمن كُتب عليهم الموت عند النهاية،
خرجوا من الاستعارة وعادوا إلى بلادهم، لم تعرفهم بلادهم، هربوا من البداية، عادوا
للنهاية، وماتوا هناك، وأنا انتظرت الكاتب، أعطني حبيبتي وبلادي لأصير رجلاً، خذ بلادي
وسأصبح ثائراً، خذ حبيبتي وسأعود طفلاً، خذ كلاهم وسأصبح قاتلاً.
لو كانت لي أرض لزرعتها أغاني، وإن كان لابد من
حب فلفتاة من صلصال الآلهة الذي لم يخالطه السيلكون ولا بركة الكاهن، ولو عاد بي العمر
لقفزت عن سور المدرسة التي لم تعلمني عن غدي كما علمتني حب أجدادي، ولتركت الطب وقرأت
كتاباً واحداً عن الايبيستيميولوجيا وكفاني.
هذه التدوينة ليست سوى محاولة يائسة لإيجاد الفاصل الهش بين العلم
والدين من وجهة نظر معرفية – ابستيمولوجية – وليست دعوة لانتصاره العلم على الدين
ولا دعوة لانتصار الدين على العلم، فإذا كان الله قد
خلق جحيماً مستعراُ في السماء فإني لا أرى لذلك نظيراً في الأرض سوى شخص مصاب بعقدة
ال perfectionism
صارع المعرفة حتى صار يرى كل شيء على أنه cliché والكلاشيه كلمة فرنسية تعني مبتذل وتقليدي جدا، ودائماً ما يُخيل لي أن
الفرنسيين اخترعوا هذه الكلمة لوصف السياح الذين يلتقطون الصور أمام برج إيفل.
وأن تصاب بعقدة المثالية ورغبتك في جعل كل شيء مثالياً
في مستنقع كبير من الكلاشيهات والحوارات المبتذلة فذلك يعني أنك لن تستطيع مجاراة كل
هذا الابتذال المتكرر ولا تستطيع التصالح مع نفسك على عدم المبالاة، وبالتالي ستصاب
بشيئين الاكتئاب والشعور المتكرر بالغثيان كلما مر بك بنو كلاشيه، وبالطبع درجة من
الملل تدفعك حرفياً أحيانا لقراءة كتاب بالمقلوب أو شتم نفسك في المرآة لأن المشكلة
الكبرى أن أولئك الأصحاء الغير مصابين بعقدة المثالية استطاعوا الرد على الكلاشيهات
حتى تحولت ردودهم إلى كلاشيهات مضادة لكثر ما تم تكرارها دون أن تفلح في دحض الكلاشيه
الأساسي وهذا تماما ما حدث في نقاشات نظرية التطور المعاصرة ما بين الابتذالات الكبرى
بأنها مجرد نظرية، وأين الكائنات الوسطى؟، ولماذا لم تتطور القردة الموجودة حالياً؟،
وردود المغلوبين على أمرهم ممن لا زالوا يحتفظون بطاقتهم وتوقهم للمعرفة على كل ذلك
حتى تحولت الردود نفسها إلى كلاشيهات لكثرة ما تم تكرارها دون تغيير حقيقي في عقلية
أصحاب جملة: أثبت العلم الحديث بطلان النظرية!
إن أي محاولة لإقناع شخص يستمد معتقداته العلمية
بما يناسب معتقداته الدينية ليس سوى كلاشيه لا يمكن الخروج منه إلا بدعوة هذه الزمرة
التي تحاول إلصاق نفسها بالعلم دون فهم منهجه الحقيقي إلى تجربة علمية سنجعلها لتحري
أقصى درجات الدقة
triple blinded trial بجلب مجموعة من الأطفال بنفس الفترة العمرية والحالة الصحية المسبقة ويعانون
من التهاب السحايا البكتيري ونتعامل مع مجموعة منها بالطريقة العلمية بإعطاء أفضل المضادات
الحيوية المتاحة والتي أنتجتها منظومة البحث العلمي، والمجموعة الأخرى نجلب زمرة
"مجرد نظرية" ليقوموا بالدعاء لمجموعة أخرى من هؤلاء الأطفال المرضى، ولكي
تكون التجربة قمة في الدقة العلمية وتتبع التعمية الثلاثية سنقوم بجلب شخص أخر لتحليل
النتائج ومعرفة نسبة من تماثل للشفاء في كل مجموعة.
على رسلك ..
لماذا تشعر بالاهانة؟، هذا ليس تحدي أعرف نتيجته
مسبقاً بل دعوة لإتباع المنهج العلمي في التجربة والبرهان فقط أياً كانت النتائج، ولكن شعورك بالاهانة يعني
على الأرجح انك تعرف مسبقاً أنك ستفشل وستحتاج لفلسفة الأمر أن الدواء يتم بأمر الله
لكن لا بأس من القيام بالتجربة، ولا بأس بك أن تدرك كم أنت ضعيف هذه المرة.
على رسلك مرة أخرى ..
لست أنا من استخدم منظومته الدينية المسبقة للقفز
بتبجح على الحقائق العلمية مستخدماً قشور العلم، لست أنا من اقتحم العلم بنظريات مسبقة
أبحث فقط عن أي عبارة أو كلاشيه لأردده بحدود المنطق البسيط والغير واعي لحقيقة المنهج
العلمي، والشعور الغريب الذي اجتاحك من فكرة التجربة التي اقترحتها هو نفس الشعور المقزز
الذي شعرت به وأن تفتري على العلم لتثبت وجهة نظرك المسبقة، أما انا فلا أعتقد أن المنهج
العلمي يجب أن يؤثر أو يتأثر بالدين وبالمثل لا يجب التعامل مع الدين على أنه علم واستخدام
المنهج العلمي علي، ولا أعتقد انه يمكن استنباط أي علم من الأديان، لان العلم له منهجه
أما الدين فيتعلق بإيمانك به، لذا احذر من الخلط بين العلم وإيمانك الخاص، واحذر أشد
الحذر في كل مرة تجد فيها توافقا بين إيمانك والعلم لأنك على الأغلب جانبت الموضوعية
والمنهج العلمي الرصين.
العلم غير مقدس، لقد نمت ليلة أمس وأنا اعتقد أن
نظرية الانفجار العظيم هي أكثر نظرية مقبولة علمياً في تفسير نشأة الكون، واليوم صباحاً
وجدت مقالة علمية عن تعديلات كمومية قد تسقط نظرية الانفجار العظيم، بالمثل قد أستيقظ
إذا على نظرية علمية اتبعت مناهج البحث العلمي تقدم بديل عن نظرية التطور ولا أحد سيكون
لديه مشكلة مع الأمر، فانا لا أؤمن بالنشوء والتطور فلا مكان للإيمان هنا لكني أحترم
المنهج العلمي الرصين أياً كانت النتائج ولا أبحث فقط عما يبرر قناعاتي السابقة ، وهذا
يا صديقي ما نسميه بالــ
Falsifiability or refutability وهذا أجمل ما يميز العلم، فأي نظرية علمية
يجب أن تكون قابلة في ذاتها لإثبات الخطأ، أي لا يمكن افتراض ما لا يمكن اثبات عكسه،
فحين نقول أن الأرض لها جاذبية تجذب الأشياء اليها عند السقوط الحر فهذا يعني أن أي
شخص يمكنه إثبات خطأ هذا التعميم إذا رصد جسماً حراً يصعد لأعلى دون قوة معاكسة لقوة
وزنه وبالمثل فان أي نظرية علمية يجب أن تكون في ذاتها قابلة لإثبات الخطأ فيها، فلا
يمكن أن تقدم فرضية تدعي انها علمية اذا كانت غير قابلة للنفي فمثلا لا يحق لك الافتراض
ان هناك كائنات خفية تعيش معنا لا نستطيع رؤيتها ولا سماعها ولا رصدها باستخدام اي
طريقة علمية متاحة كالمجاهر أو التلسكوبات فهذا الافتراض غير قابل للنفي في ذاته لذا
لا يؤخذ به ولا يرقى حتى لمستوى الفرضية العلمية، وهذا مرة أخرى يا صديقي ما يصنع الاختلاف
بين العلم والدين فالدين لا يقوم على نظرية ومنهج ولا يكون في ذاته قابل للخطأ وبالتالي
يمكنك رفض تطبيق المنهج العلمي على الدين، لأن الدين غير قابل للدحض ولا يملك خاصية
ال
Falsifiability وكل الجدل الذي يدور حول إثبات خطا الأديان او صحة أحدها على حساب الآخر
ليست سوى كلاشيه بصوت صديقتنا الفرنسية الجميلة، لم تخرج عن كونها مجرد ثرثرة تاريخية
تحدث عنها في تدوينة في حضرة المستشرق ... رقصة على قبر المؤرخ، وتحدثت عن أصولها
في سيكولوجيا الايمان .. الطبيب مثالاً، وحين كتبت عن علاقة العلم بالفلسفة
في تدوينة أمرأة من أثينا لا تكفي كنت اعرف لا محالة أن علي الكتابة عن علاقة
العلم بالدين ولكني المثالية والشعور بالملل جعل من أي محاولة للكتابة استمرار للابتذال
المضاد، وقد كانت فكرة الكتابة منذ البداية هي إيقاف هذا المد المجنون من الجدل العقيم.
اذن فالدين "كإبريق راسل" لا يمكن نفيه،
أما العلم فيجب أن يكون من لحظة افتراضه قابل للخطأ بالتجربة والمشاهدة، لذا لا يمكن
تطبيق المنهج العلمي على الدين، وبالطبع ولا يحق لك إطلاقا الانطلاق من قناعاتك الدينية
المسبقة لتشويه المنهج العلمي أو التحايل عليه.ج لإضفاء مزيد من المصداقية لإيمانك
مستغلاً أناقة العلم لأنك في الحقيقة ستضع إيمانك في محل شك حين تدور عجلة التقدم العلمي.
اذا كنت تجد مشكلة في استيعاب نظرية علمية ككل،
فإياك أن تفكر بالإجابة على سؤال هل تؤمن بنظرية كذا، قل لهم سريعاً ما شأن إيماني
بالأمر، فالإيمان يكون بالدين الذي لا يمكن إثبات خطأه أو صحته أما العلم فسيظل في
كل لحظة عرضة للتغيير تجلياً في صفته الأسمى ال Falsifiability، هل هذا يعني أنهما لن يتصادمان؟ للأسف يمكن حدوث
ذلك بل وحدث، فالصدام حتمي لكن اذا فكرت بالأمر قليلاً ستعرف أن أحدهما لن يلغي الأخر
فالعلم لا يمكنه إثبات خطأ المعتقد الديني الغير قابل في ذاته لأن يكون خطا فكيف تريد
من العلم أنه ينفي افتراضاتك الدينية اذا قلت فقط أنها خارج قدرات العلم على الرصد،
وكذلك فإن الدين لن يلغي العلم لأن العلم لا يسقط بسقوط أحد نظرياته، لكن بشرط أن تتبع
المنهج العلمي الرصين.
أما اذا كنت تجد مشكلة ذوقية في استيعاب أن رجلأ
بقسمات راهب قلب التاريخ على ظهورنا ومضى، فتلك مشكلتك الشخصية التي يمكنك حلها اذا
فكرت قليلاً بأنك بالمنهج الديني كنت أقل ذوقاً، لذا نعم حتى الآن أصلنا قرد، ولا لا
تصدق أصحاب المنهج العلمي المتموع ممن حاولا جعل ذلك أكثر إقناعا وأقل علمية أخبروك
أن لنا سلفاً مشترك لان الحقيقة أن أسلافنا المشتركين هم Proconsulidae و
Aegyptopithecus،
وفقط لكون كلمة قرد كلمة لغوية أكتر منها علمية لكن الحقيقة أن أسلافنا المشتركين أيضاً
يشبهون القرود، فالعلم لا يعرف المحاباة ولا يعرف التعصب أيضا فالتعصب يكون لمنهجه
لا لنتائجه، وعليك أن تكون جاهز في كل لحظة لاعتناق نتائجه المتغيره بقدر ما تعرف وبقدر
اجتهادك وقدرتك على متابعة العلم والمعرفة.
هذا نحن، وهذا هو العلم، حين انتصبت قامتنا ازدادت
مشاكل مفصل الركبة لدينا وبتنا نصاب بمرض البواسير، وحين انفصلنا عن الNeandertal وأصبحت عقولنا أكثر تعقيداً صار من الممكن
أن نصاب بالشيزوفرينيا، لا شيء مقدس ولا شيء مثالي، ودفعنا ثمن فاتورتنا التطورية أيضا،
أنت تشعر بالحب والانجذاب لفتاتك لأن مركباً كيميائياً من ٤٣ ذرة كربون و ٦٦ ذرة هيدروجين
و ١٢ ذرة نيتروجين و ١٢ ذرة أكسجين وذرتي كبريت تم تصنيعه في غدة صغيرة أسفل دماغك
اسمها Hypothalamus تجعلك تثق أو تحب شخصاً ما وأي اعتلال فيها سيؤثر على سلوكك، وتشعر بالألم
لان النسيج المتضرر يفرز مادة كيميائية تتكون من ٢٠ ذرة هيدروجين و ٣٢ ذرة هيدروجين
و ٥ ذرات اوكسجين، قد يبدو لك العلم مجنوناً أحيانا لكن سيظل دائما يفتح ذراعيه لمن
أراد أن يثبت خطأه دون أدنى تعصب.
ومرة أخرى هذه التدوينة ليست دعوة لانتصار العلم
على الدين، وليس دعوة لتصديق نظرية ما، بل دعوة لاحترام المنهج العلمي الموضوعي بتجرد
تامة دون الانطلاق من قناعات أيدلوجية مسبقة، وجعل احترام المنهج العلمي جزء من خططنا
التربوية في مدارسنا وجماعاتنا بعيدا عن التعابير الإنشائية في مكانة العالم بل بتدريس
هذا المنهج من وجهة نظر معرفية متكاملة، وهذه دعوة أيضا لعدم استنباط الحقائق العلمية
من النصوص الدينية لأن ذلك لا ينصف العلم ولا الدين، ودعوة لتطوير قواعد المنهج العلمي وترسيخ قيمه التي لا
تقل أهمية عن ترسيخ القيم الدينية، ودعوة لعدم استغلال أناقة العلم واحترام الناس له
في الترويج للأفكار الدينية التي قد تدعي بطرق مراوغة انها سبقت لهذا العلم.
باســـل