إن
أي رحلة معرفية صادقة - مَهما طالت - لن تبلغ بكَ مبلغ معرفة الصواب من الخطأ،
لكنها على الأقل، ستمنحك القدرة على معرفة ما يهم مما لا يهم، هذه هي الحالة التي
نُحاول الوصول إليها كمرحلة سابقة لمرحلة اتفاق البشرية على ما يهم، وبالتالي
التأسيس لحضارة بشرية تؤمن بالسلام والتعايش وتنبذ كافة إشكال التناحر الفكري برغم
اختلافها في كثير مما ليس له أهمية، لكن المهمة الصعبة هنا تتمثل بقدرتنا على نقل
كثير مما يُعتبر مقدساً وذا شأن عظيم عند كل شخص في العالم إلى خانة الغير مهم،
هذا الانتقال هو الخطوة الأعظم في تاريخ العرق البشري منذ ظهور الHomo Erectus ، فأنا لا أعتقد أن من يُحاولون الخروج بفهم
أفضل - أجمل بالأحرى - للدين، يمتلكون أفضلية
الحُجَةَ والبرهان على الطرف الآخر الذي يرى بدوره أن تأويله للدين هو الحق والأصل،
لذلك فإن المخرج الوحيد من كل خلافنا المعاصر ليس بمحاولة التوفيق بين التأويلين لإثبات
أحقية أحدهم على الآخر وصواب فهمه للدين، ولا الجدل لتحديد من هو على صواب، وليس
بتحديد صواب ما نتفق عليه، ولا حتى بإيجاد تفاهم مشترك، بل بالتقليل من شأن كل
الاختلافات التي اعتدنا نفسياً على اعتبارها ذات شأن عظيم، إذا تعلق الأمر
بالتعايش الإنساني العالمي.
ذلك
ما يجعل هذه التدوينة تبدو وكأنها تحاول الوصول إلى ما هو مقدّس لديك، ليس
بالسخرية، ولا بإثبات بطلانه، بل بإثبات عدم أهميته، وفي سبيل ذلك، إثبات عدم مثاليته،
ولا قدسيته، ولا علو كعبه المطلق على من يختلف معه على الأقل، وأنَّ العلم ومنفعة
الناس هما حقاً ما يهم وما يجب التركيز عليه والتعاون في تطويره.
لقد حاولت مراراً في تدويناتي السابقة: سيكولوجيا الإيمان، الترنيمة والنظرية، الذين لم يجدوا الفردوس، القيام بمناورة حرجة بين الدين والعلم والفلسفة، ومن خلال تحليل هذه
العلاقة حاولت جعل المعرفة أكثر ارتباطاً بالمنفعة المباشرة للإنسان والبشرية ككل،
ومن أجل تحقيق ذلك كان من المهم تحليل الإيمان كعملية عقلية، دون التعرض لها
بالنفي أو الإيجاب، بل بتعريتها كعملية بحيث يصبح نتاجها أقل أهمية مما نعتقد،
وبالتالي يصبح الصراع حولها أقل حدة، وبالتالي يمكن التركيز على ما هو أهم، وهذا ما أحاول فعله في هذه التدوينة.
إن تلك القشعريرة التي ستجتاحك إذا تأملت رائعة مايكل أنجلو في سقف كنيسة سيستينا،
وتلك التي ستجتاحك إذا استمعت لقراءة المنشاوي لسورة مريم، ليست إطلاقا دليلاً على
تواصلك مع قوى سماوية ما، بقدر ما هو أشبه بمتلازمة ستندال التي ستجعلك تشعر بهذا
الشعور أمام أي عمل فني أو درامي مؤثر، وبذلك فإني أعتقد أن هناك ثلاث نقاط تلخص
الحالة الإيمانية:
1.
يبدأ الإنسان بتكوين إيمانه في مرحلة مبكرة جداً من حياته، مدفوعاً
برغبته الفطرية في الحصول على إجابات، ويكون ذلك في مرحلة حساسة يفتقر فيها هذا
الشخص – الطفل – لأبسط مقومات التفكير المنطقي العقلاني والمجرد، والقائمة على
إضعاف الفكرة القوية، ومساندة الفكرة الضعيفة.
2.
ما يجعل النقطة الأولى أكثر تعقيداً بنظري، هو عدم التماثل في قابلية
الإنسان للتصديق مع قابليته لتقبل نفي ما يؤمن به، إذ يبدو الإنسان إجمالا ككائن يُصَدِّق
بلا دليل، ويعجز عن الشك بما يؤمن أو نفيه حتى بدليل نفي، فمثلاُ إذا أخبركَ شخصٌ
ما بأن تناول الفراولة والبصل معاً يؤدي لسرطان في المعدة، فإنك - سواء أدركت ذلك
أم لا - ستُصدقه حتى لو في منطقة مخفية
بعمق بداخلك، وستعمل بمقتضى هذا الأمر كأنه حقيقة، ولو جاءك أشهر طبيب أورام في
العالم بعد أعوام ونفى لك هذا الأمر فإنك لن تصدقه، أو على الأقل ستظل تعمل بمقتضى
نفس المعلومة التي سمعتها للمرة الأولى سيما إن كنت سمعتها في مرحلة الطفولة،
وستظل تخاف من تناولهما معاً، حتى وإن كانت المعلومة من الأساس صادرة عن شخص
بالكاد يجيد القراءة، وستجد صعوبة في نفيها حتى لو صدر النفي عن شخص مختص.
أي أَنّ معضلة الدماغ البشري عند عامة الناس أنه لا يجد أي صعوبة أو
مشكلة في تصديق أي معلومة تُقال له حتى بدون دليل ما دامت لا تتعارض مع شيء أخر
يؤمن به مسبقاً، وأن الإنسان بطبيعته يميل للتصديق، ولكن المشكلة ليست هنا، بل في
محاولة إقناع هذا الشخص بعدم صحة ما يؤمن به، هذه العملية لا تبدو سهلة على الإطلاق
بالنسبة لعامة الناس، سيما اذا تعلقت بقضايا الإيمان الديني أو حتى العرقي
والسياسي، أي أن العقل البشري يمتلك قابلية غريبة لتصديق أمر بدون دليل وعجز واضح عن
نفيه ما أتى بدون دليل حتى لو أتى النفي بدليل مضاد.
وبذلك فأنت لا تجد مشكلة في تصديق أن الفراولة والبصل معاً يسببان
سرطان المعدة، وصدقني لو أنك سمعتْ هذا الأمر في مرحلة مبكرة من حياتك، فإنه
يستحيل على كل أطباء الأورام في العالم إقناعك بالعكس، أو إقناعك بأن تناول البصل
والفراولة معاً شيء آمن وليس له علاقة بأي سرطان، وبالتالي فإنّ نزعة الإنسان
العادي للشك موجهة نحو النفي أو لحظة التعرض للتشكيك، فهنا تبرز قدرته على التشكيك
في التشكيك ولكن لا يستطيع فعل ذلك في البداية.
سيقول لي قائل أنه ربما لا يبدو هذا المثال الذي استخدمته موفقاً،
وأنه على الأرجح يبدو منطقياً أن نصدق ذلك فعلاً لو سمعناه حتى لو بدون دليل لكن
صعوبة اقتناعنا بالعكس مدفوع بفطرة الإنسان على الأخذ بالأحوط، وكون المثال يتعلق
بصحة الإنسان جعله أكثر إقناعاً، وليس للأمر علاقة بالإيمان، لكن الحقيقة أن إيمان
الإنسان يشبه إلى حد كبير ذلك، ففي اللحظة التي يبدأ فيها الشخص بالتعرض لما ينفي
إيمانه، فإنه سيميل أيضاً للأخذ بالأحوط لتجنب ما قد يترتب على إيمانه من ثواب
وعقاب - حتى لو صدق في نفسه النفي - فمثلاً إذا نفى له
شخص ما وجوب فريضة يقوم بها، فإنه سيظل يمارسها أخذاُ بالأحوط وتجنباً للعذاب الذي
قد يترتب على عدم قيامه به.
3.
الأمر الأخير هو أنه في اللحظة التي يتداعى فيها إيمان شخص ما، ويبدأ
بممارسة إيمانه من باب الأحوط فقط، وليس الإيمان المطلق، فإنه لن يلبث أن يبدأ
بالشك أيضا من باب الأحوط أنه يمارس الإيمان الخاطئ، وبالتالي فإنه معرض للعقاب في
نظر منظومة إيمانية أخرى، في هذه اللحظة يظهر الضعف البشري في أوضح صوره، لحظة
المناجاة الخافتة باني أضعف من كل ذلك، وأضعف من الانتقال لإيمان آخر، وأضعف من إيماني
الحالي، وأضعف من عدم الإيمان بشيء، وستسيطر عليك فكرة واحدة: وهي أن الله العادل
الرحيم الكامل لن يكلفك كل ذلك، حتى وان كان الإيمان الذي يريده مختلف، فإنه لن
يظلمك، هذه الحالة هي أكثر صورة مسالمة للإنسان، الكائن الذي بطبعه يميل للتطرف
والتمركز، وربما هذه هي الحالة التي أحاول خلال هذا الكتاب الوصول بك إليها.
ما
الذي أريده إذن؟ هل هي دعوة للشك أم لعدم الإيمان؟ أم لنفي ما نؤمن به؟ والإجابة
هي لا لكل ذلك، بل بالتوقف عن تطرفك في إيمانك فهو ليس بهذه الصلابة المعرفية التي
تعتقد، وحتى وإن ظهر لك هذا الفصل على أنه دعوة لللاأدرية فهو ليس كذلك أيضاً،
فأنا أؤمن بالكثير، لكن لا أُعطي إيماني هذه الأهمية حين يتعلق الأمر بالمقارنة في
إيمان الآخرين، وأدرك تماماً أن إيماني هو عملية بشرية عقلية خالصة بكل ما قد
يترتب على ذلك، ولا أمنح نفسي على الإطلاق الحق بالاعتقاد بأني أمتلك من الصدق
أكثر من الآخرين في قضايا كهذه، ونعم أعتقد أن العلم أعلى كعباً، وبالطبع لا أرفعه
لأي درجة يقينية، لكنه منهجنا الأدق لتحصيل المعرفة، وأعتقد أن التاريخ لا يهم،
وكل ما هو قادم في هذا الفصل هو دعوة للتعايش فقط، وفي سبيل ذلك أنا مستعد لأن
أسلك الطريق الوعر في التعرض لكل من يعتقد أنه أكثر صدقاً واتصالاً بالآلهة من
الآخرين، ولست أبالي بما يمكن أن تجده من التخبط فيما أقول ما دمت أحاول الوصول لذلك.
أما
رهاني الأكبر، ومجازفتي الأعظم، فهي اعتقادي بأن الظروف الحضارية الحالية مهيأة،
وأن الجيل الحالي الذي شهد فورة العلم وثورة التكنولوجيا وما قدمته للناس في مختلف
المجالات، لم يعد بإمكانه تحمل إقحام التاريخ الفضفاض في حياته، ولا أقول أنك لن
تتأثر مثلاً بسماع تفاصيل قصة المسيح على طريق الآلام وصولاً للجُلجثة يوم صُلب،
وربما تبكي عند سماعك ترنيمة تصف ذلك، لكني أعتقد أن هذا الجيل لن يحتمل فكرة أن
أقدس ما يؤمن به قائم مثلاً على اختلاف ساذج في معرفة من يعود عليه ضمير لغوي في
نصوص حادثة الصلب.. على المسيح نفسه أم على سمعان القيرواني وهو الرجل الذي حَمل
عنه الصليب، هل تُصدق ذلك، أننا مختلفين في على من يعود ضمير الصلب في النص
الإنجيلي !؟
نص
انجيل متى:
27فَأَخَذَ
عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ
الْكَتِيبَةِ، 28فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا، 29وَضَفَرُوا
إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ.
وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ:«السَّلاَمُ
يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» 30وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ
وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. 31وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ
الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ. 32وَفِيمَا
هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَانًا قَيْرَوَانِيًّا اسْمُهُ سِمْعَانُ،
فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. 33وَلَمَّا
أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى «مَوْضِعَ
الْجُمْجُمَةِ» 34أَعْطَوْهُ خَّلاً مَمْزُوجًا بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ. 35وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا
"
هناك اختلاف هل يعود الضمير في هذا النص على المسيح أم على الرجل الذي "سُخّر" لحمل الصليب عنه، وبالمناسبة لا نعرف أيضاً معنى هذا الكلمة (سخروه) بالتحديد والتي تكررت في نصوص الأناجيل: متى ومرقص، أو ترجماتها للعربية.
نص
انجيل مرقس:
16فَمَضَى
بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الْوِلاَيَةِ،
وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ. 17وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُوَانًا، وَضَفَرُوا
إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، 18وَابْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ
عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» 19وَكَانُوا
يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ
يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. 20وَبَعْدَمَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ،
نَزَعُوا عَنْهُ الأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ
لِيَصْلِبُوهُ. 21فَسَخَّرُوا رَجُلاً مُجْتَازًا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ،
وَهُوَ سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ.
فهل أشفقَ هذا الرجلُ على المسيح؟ وتطوع بحمل الصليب عنه بعدما رأى ضعفه وعجزه عن حمله، أما أن الجنود الذين يقتادون المسيح هم من طلبوا منه ذلك، أما أن هذا الرجل لم يوجد أصلاً، لأنه لم يُذكر في إنجيل يوحنا مثلاً، ولكنه ذُكر في متى ولوقا ومرقس بنفس النصوص المشكوك في عودة الضمير في فعل الصلب، هل صُلب سمعان بدل المسيح، أم فقط حَمَل عنه الصليب إلى مكان الجُلجثة، أم لم يوجد هذا الشخص تاريخياً، بالطبع يوجد ملايين الكتب التي تجيب على هذه الأسئلة، وأنا هنا لا أبحث عن الإجابة، بل هو فقط عرض لهشاشة كثير مما نؤمن به تاريخياً على أنه شيء مقدس وعلى استعداد للموت دفاعاً عنه، وأنه ببساطة أياُ كانت الإجابة ذلك لا يهم، إذا كنت تشعر بالراحة بتبني إجابة ما فليكن، لكن لا تنسى، إيمانك ليس مقدس، ايمانك مبني على اختلاف في عودة ضمير لغوي، والأهم أن ذلك لا يهم أحد.
أو مثلاَ الاختلاف الإسلامي الأعظم في تفسير
حديث الغدير هل نص على خلافة الإمام علي أما على فضله!
فقال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله
أعلم، قال: إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلاث مرات، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرات ثم قال: اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبَّ من
أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ
دِينًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام
النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي
وبناء على اختلاف في تفسير لغوي آخر، ستقوم بتكوين إيمانك الذي يصل لحد تكفير أصحاب التفسير الآخر وقتلهم وتوعدهم بالعذاب، وأنت لربما تقرأ هذا النص لأول مرة، ولعلك مبرمج نفسياً لعدم الاطمئنان لأني لم أذْكر لك الحديث مسبوقاً بعشرات العنعنات عن رجال لم تسمع عنهم يوماً، لكنك فقط ترتاح لمثل هذه العنعنة، أو لمجرد أن أذكر لك أنه متواتر وفي صحيح مسلم - وهو كذلك - ، هذه الأشياء التي تعني لك الكثير كدليل وهي في الحقيقة لا تساوي شيء إلا في مخيلتك، وهنا أراك تقفز من مرحلة إنكار النص ولا أعرف لماذا إلى مرحلة الكتب التي تفسر هذا الحديث بالطريقة التي تحفظ لك إيمانك، وهي كثيرة بالطبع، لكنك تقوم بكل ذلك كنتاج لنفس التحليل الإيماني الذي ذكرته، أنت فقط تدافع عن إيمانك الأول، ولو علّموك هذا النص منذ البداية على أن معناه ولاية الإمام علي لكنت الآن في أوج استغرابك أن هناك من يُكذّب ذلك، لذا يجب أن تدرك أنك تقوم بردة فعل مبالغ فيها جداً مقارنة بموضوعية ما تؤمن به، وأن ما عليك فعله ليس أن تهرب للبحث عن نص أو تفسير يؤيد إيمانك الأول والذي كما ذكرت مزيته الوحيدة أنه جاء أولاً ليس إلا، كما أوضحت في النقاط الثلاث الماضية، إنما عليك أن تسأل نفسك ما الذي يعنيه حقاً إيمانك بهذا الفهم أو الفهم الآخر الآن، وبشكل أدق هل تبدو لك هذه الضبابية دليلاً قوياً لتضفي على إيمانك صفة المقدس !!
إن أقدس ما قالوه لك ليس بالمقدس، وأقذع ما رموا
به خصومك ليس بهذا السوء الذي تعتقده، كل شيء هش ولا يستحق إطلاقا أن نطلق حوارات
وجدالات في فهم أيٍ منا للمعنى، هل أحاول
دفعك لأخذ موقفاً سلبياً لاأدرياً من كل ما سبق وتكتفي بقول لا أعرف، لا، لا
يعنيني ذلك، بل يعنيني أن تدرك تماماً وأن ترى بوضوح أن أقدس ما تؤمن به ليس بهذه
الصلابة في الحقيقة، بل نتاج مغالطات نفسية وعقلية عدة، وقائم على الأرجح على
تفسيرات مختلفة لنصوص لغوية عدة، تريد أن
تؤمن بأن المسيح صُلب؟ تريد أن تؤمن أن الضمير في نص الإنجيل عائد على سمعان وليس على المسيح وأنه هو من صُلب؟
تريد أن تنفي وجود القيرواني أصلاً؟ تريد أن تؤمن بأن معنى حديث الغدير ولاية علي؟
تريد أن تؤمن أنه دلالة على فضله لا أكثر؟ لا يهمني أي من ذلك، ما يهم أنه ذلك كله لا يهم، وأنه مسألة
إيمانك بأي من ذلك ليست شيئاً مقدساً على الإطلاق، لا شيء مقدس في أي من ذلك،
تفسيرات مقبولة أو هشة لنص تاريخي، ضمير لغوي لم نعرف على من يعود، ربما عليك أن
تعيد فكرتك عن المقدس وكيف جاء وما هيته ليتطلب منك كل هذا التقديس.
وإياك
أن تعترض طريقنا مجددا بنصوصك لتثبك لنا إيمانك، وسأخبرك في تدوينة (في حضرةالمستشرق .. رقصة على قبر المؤرخ) ما
يهمنا من التاريخ، لكن عليك أن تتوقف فوراً عن اعتبار النص دليلاً في وجه النص، أو
حتى اعتباره دليلاً من الأساس، ولجعل ذلك بشكل أبسط، فإني أعدك بأن أكون أول من يؤمن
بما تؤمن اذا جَلبتَ لي دليلاً رياضياً اقدليديسياً، فهو الدليل الوحيد الذي يستحق
الانحياز له، أو على الأقل دليلاً تجريبياً في تجربة محكمة، فهل تمتلك دليلاً كهذا؟ّ
وسيقول
قائل: كيف يمكن الإيمان بما لا يمكن الدفاع عنه؟ وإن كنت لن أرى تفوقاً في المصداقية
لإيماني على ايمان الآخرين، فما الذي سيدفعني للإيمان به؟ ما دمت كما ذكرت لا
أدعوك لتركه أيضاً!
هنا
تتخذ الفكرة طابعها الأدق، وهو أن تحليل الإيمان أمامك، وعرضه بشكل حيادي كعملية
بشرية تضم الكثير من مواطن الضعف والقصور والخطأ سيجعل على الأقل من إيمانك أقل
قدسية، وأنا أعتقد أن الإيمان الأقل قدسية، أكثر جمالاً وأكثر قدرة على التواصل مع
الآخرين، دون ازدرائهم، وبالتالي فهي الطريقة الوحيدة للأمر.
كل ما أنتظره من القارئ في نهاية الفصل أن يؤمن
بأن سبب إيمانه مثلاً بقصة سليمان مع هدهد يتكلم هو أنها قُدمت له كقصة من كتابه
المقدس، وأنه هو نفسه لو سمع بهذه القصة لأول مرة على أنها من كتاب مقدس أخر
كالتوارة، او حتى حكاية أطفال مثلاً لما تماسك نفسه من الضحك من فكرة هدهد يتكلم،
ولم ادخر كلمة واحدة في السخرية ممن يؤمنون بذلك، وربما يقول مثلاً أنها معجزة
وكرامة لنبي دون أن يدرك أنها بالنسبة لنا الآن تاريخ وبهذا المنطق لا يمكن لنا
السخرية من أي معتقد ولا حتى من حكايات الميثولوجيا الإغريقية، وأعرف كما ذكرت في
النقطة الثالثة أن القارئ لن يستطيع التخلص من إيمانه مهما بدا له غير منطقي،
ولذلك فكل ما أريده منه أن يحترم معتقدات الآخرين ليس ادعاءً للتحضر وحسن الخلق
وأدب الاختلاف بل إيمانا بأنه ليس أصدق من أحد، وانه فقط يختار الإيمان الذي يجعله
أكثر راحة ليس إلا.
باســــــل
باســــــل