وأذكرُ
يومَ وصلتها متعباً وقت السَحَر، 541 يوماً منذ سألتني موظفة المطار عن المكان
الذي سأقيم فيه، ووقتها لم أكن أعرف عن جغرافيا عمان سوى ما تأملته في خارطتها
أثناء رحلتي القصيرة من القاهرة وتلك الدوارات الثمانية التي تمتد ليس فقط كخط مكاني متصل يربطها شارع واحد بل كرزنامة زمنية
تعبر عن تاريخ المدينة الممتد منذ سكنت قبائل الشابسوغ الشركسية ما بات يعرف
لاحقاً بالدوار الأول، ويبدو أنني استغرقت الكثير من الوقت في صمتي حتى أنها غيرت
تسريحة شعرها بحركة خاطفة من ponytail
إلى
Bun ، بدت غير معتادة على العمل ليلاً وفاقدة
للتركيز، وأنا الغريب المصاب بالأرق
المزمن ولعنة الكتابة، أراقب كل ما حولي كمن يحذر هذه المدينة من نزعة الكاتب،
وفطرة المؤرخ الذي نزل قبل قليل بحقيبته الصغيرة وهذه الموظفة أولى ضحاياه في سردية
طويلة ابتدأت للتو، وكنت اصارع الاجابات
في رأسي على سؤالها البديهي الذي لم تكن
اجابته بالنسبة لي بهذه السهولة، رغم أني كنت قد أتممت قراءة تاريخ هذه المدينة
الممتدة عشوائياً من شرفة في هليوبوليس قبل بضعة أيام.
أجبتها
أني سأقيم في الشميساني، فهو مكان عملي رغم أني لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة المكان
الذي سأذهب اليه عند الخروج من المطار،
ولم أدخل هذه المدينة مسبقا، ولا أعرف إن كانت الشميساني حياً - أم فخا -
ابتسمت لي بصعوبة بالغة خلف ملامح التعب التي تحتل ملامحا، وهو ما جعلني أعتقد
انها أكثر لباقة مما بدت، وكأنهم قد فرضوا عليها حديثاً تغيير ساعات عملها، ليضعها
القدر أمامي، ضحية أولى لنزعة المدون القادم من أقصى البلاد وأوسط البحار.
ما
الذي تخبئه لي هذه المدينة ؟
كان
ليلها من صالة القادمين في المطار يوحي ببزوغ الفجر، وحدي كنت أعرف كيف يولد الليل
من الليل في سماء مدينتي التي أنجبت لكل مقاتل فيها شاعر يصف له كيف يبزغ الفجر من
الليل في المدن الرتيبة، وأنجبت لكل شاعر مقاتل يصف له كيف يبزغ الفجر من ظل
المتاريس ومن فوهات البنادق المعلقة على أشجار البرتقال حين استراح المقاتلون في
حقول المدن الثائرة.
كانت المدينة أمامي تلال من الاحتمالات، وما ردني احتمال أن أموت فيها بنقص حاد في الأمل أو فرط في الحنين، أو احتمال أن تخلع قلبي فتاة سمعتها تعزف الهرمونيكا، ثم تركتني خلفها أحصي احتمالات التواطؤ بين لون الهرمونيكا وطلاء اظافرها الفيروزي.
كان
يمكن أن تكون سرديتي أجمل لو لم يكن في انتظاري أحد، فنحن نحب رهبة الحزن الخفيف على وجوه الاخرين
ووقار وحدتهم، غير أن قارئاً لم أكن أحسب وقتها أن لي في هذه المدينة قارئاً غيره
عرض أن يقلني من المطار حين عرف بقدومي.
كلما
تذكرت هذه الليلة، تذكرت صديقي الذي زارني الشهر
الماضي وسألني منذ متى وأنا في عمان فأجبته منذ أن كان الخامس دواراً، بدت
اجابتي للغريب عن هذه المدينة وكأني هنا منذ قرون، لكن الغريب أنها بدت لي أيضا
كذلك، وأنا الذي يعرف أن الدوار الخامس تحول لاشارة ضوئية منذ ثلاثة أشهر فقط.
ويستمر
السرد ...
باسل