بعد سقوط
الاشتراكية العلمية كفكرة، وبزوال القوميات وانطفاء جذوة الثوار حول العالم، انتهت
آخر الأفكار العظيمة التي بدأت في عصر النهضة حين أهال
كوبرنيكوس التراب على النظرية البطلمية السائدة ليقدم لنا فكرة مركزية
الشمس Heliocentrism ، ثم جاء رجل بقسمات راهب قلب
التاريخ على رؤوسنا حين قال بالأصل المشترك للأنواع وما بات يعرف لاحقاً بالتطور الدارويني Evolution ،
والقول أن الاشتراكية هي آخر الأفكار العظيمة لا يعني الانتقاص من قيمة كل
الانجازات العلمية المعاصرة بتطبيقاتها المؤثرة في كافة مجالات حياتنا، لكنني
أتحدث عن الأفكار الشمولية التي شكلت مفترقات الحضارة البشرية في فهمنا لأنفسنا
وتاريخنا ومحيطنا الكوني، ويمكن ايجاد رابط مشترك بين هذه النظريات
الثلاث باجابتها على الأسئلة البديهية مثل أين نحن؟ وقد كانت الاجابة قاسية على
غطرستنا السابقة حين عرفنا عن عدم مركزيتنا في هذا الكون، في حين حاولت الداروينية
الاجابة على سؤال أكثر الحاحاً: من نحن وكيف وصلنا إلى هنا؟ أما الاشتراكية
العلمية فهي النتيجة الحتيمة لكل ما سبق من خيبات وتكمن أهميتها في الاجابة على
السؤال المخيف: ماذا سنفعل ؟ وبغض النظر عن الشكل الحالي لهذه الأفكار وما آلت
اليه حاليا من مسلمات علمية كمركزية الشمس، أو ساحة صراع علمي ديني كالداروينية،
أو نوستالجيا التجارب الطائشة كالاشتراكية، فهي لا تزال النظريات الأكثر أهمية في
تاريخنا البشري، شئت ذلك أم أبيت.
وبانتهاء حقبة النظريات
الكبرى، وبتعطل خوارزميات التطور الدارويني أمام خوارزميات الآلة والتكنولوجيا،
تحولت الأفكار إلى مسمى أقل رهبة ككلمة "المحتوى"، حيث يمكنك تقديم أي
فضلات فكرية تحت مسمى محتوى، وكمثال على ذلك فقد شاهدت قبل أيام "صانعة محتوى" يتابعها
الملايين قدمت فيديو تشرح فيه كيفية ازالة بقعة عن الملابس وبدأت بالشرح ان عليك
جلب قطعة قماشية أخرى كمنشفة بشرط أن تكون نظيفة وفرك البقعة، وانتهى المحتوى
العظيم وقد وعدت مقدمة المحتوى متابعيها - وهم حقا ملايين - أنها
ستعلمهم كيفية عمل الكبة في المقطع القادم، والذي أتخيل أنه سيبدأ كالتالي: نحضر
الكبة ثم نضعها في الفرن لمدة كذا .... لا أعرف كيف انحدرت البشرية إلى هذا الحد، لكن
عجلة التطور الدارويني لم تتوقف تماماً، حيث ان النخبة المنتقاة هربت من وحشة
الواقع إلى عزلتها وبدأت بانتاج أفكار دقيقة للخروج من الأنفاق المظلمة لهذا الزمن
السيبراني الوعر، وكأن فشل الاشتراكية في الاجابة على سؤال ماذا سنفعل أعاد طرح
الأسئلة الكبرى، لكننا هذه المرة بتنا أكثر حاجة لاجابة الاسئلة القديمة مثل: ماذا
بعد كل ذلك؟ أو ماذا حدث قبل كل ذلك؟ وهي الأسئلة التي تولت الأديان الاجابة عليها
منذ الأزل، وحين عجزت
اللاأدرية Agnosticism عن تخفيف وحشة هذه المرحلة، ولم يعد بالامكان الاكتفاء
بالقول أنك لا تعرف بماذا تؤمن، وكانت الأومنثية omnism التي
تتبنى فكرة الايمان بكل الأديان أقرب للشعر الرومانسي منها للعقيدة الحقيقية التي
يمكنها الاجابة على الأسئلة الجامحة، وفي لحظة حرجة من تاريخنا البشري، أطل علينا
رجل من الأراضي الوطيئة بين ألفيتين ليقدم لنا ال ietsism والتي
بتسارع سعي النخبة المعاصرة للخلاص الروحي لم يتم ترجمتها بشكل رسمي للعربية أو
الإنجليزية، وإن كنت سأقترح على مجامع اللغة العربية ترجمتها إلى (الشيئية) وهي
اعتقاد أن هناك نهاية، وهناك قوى عليا، وهناك كيان ميتافيزيقي خاج قدراتنا الحسية
الادراكية، ولكن لا داعي ولا حاجة للبحث أو الخوض في تفاصيل أخرى عن ما هيتها وما
تريده وما لا تريده منا، وبذلك فهي تخالف اللأدرية التي اتخذت الشك مخرجاً،
والعدمية nihilism التي تبنت النكران، وقد جعلتك ال ietsism قادرا
على أن تكون منتمياً لدين ما ولكن ايتسياً - شيئياً ان جازت ترجمتي - بنفس الوقت، وان كانت كلاسيكيات الأديان ترفض هذه الثنائية
وتعتبرها شكلاً مشوهاً لفكرة الأديان المعدة مسبقاً بقانون الآلة الثنائي القائم
على رقمين فقط، أي خيارين فقط، أن تؤمن به كله أو يسقط ايمانك وتصنيفك، ولكن
محاولة مجابهة الأديان بأي وسيلة ممكنة دائما تنتهي بالفشل بسبب ما ذكرته مسبقا في
تدوينة (الترنيمة والنظرية .. نهاية الصراع المزعوم)، وإن كانت هذه هي المحاولة
الأكثر أناقة للانتماء الديني الغير الكلاسيكي.
وما يجعل هذه الفكرة
بتلك العظمة، أنها أظهرت أهمية اللغة ووجود الاصطلاح فبعد ظهورها وصياغتها على يد
السياسي الهولندي رونالد بلاسترك، أظهرت أحد الدراسات أن 40% من الأوروبيين يتبنون
هذه الايدولوجيا التي لم تكن بحاجة لملائكة وأنبياء ودعاة بل لشخص واحد يقوم
بصياغة اصطلاح واحد فيتداعى الناس إليها تباعاً، وربما تكون سمة الأجيال القادمة
هي التقليل من المعتقدات والانتماءات بما يشبه وضع الايمان تحت نصل أوكام للوصول
للحد الأدنى من التفسيرات العقائدية لأكثر الحاجات الحاحاً فقط.
باســــل