• حجرتي، أتمنى لو استطعت وصفها
بالصغيرة ليبدو النص أكثر تأنقاً وشاعرية لكن طولها في الحقيقة يبلغ ستة أمتار
وعرضها خمسة أمتار لكن ما لا يمكن وصفه حقاً هو مدى العشوائية والفوضى التي تعمها
هذه اللحظة، إنها أكثر تناقضاً من اشتراكي مبتدئ يحاول تمييع الشيوعية وأكثر فوضى
من قاعة برلمان عربي، وأكثر عشوائية من الخطاب العلماني المعاصر، وحدها مكتبتي
الصغيرة تبدو ساكنة في ذلك الركن الهادئ الذي يحاول باستماتة النجاة من هذه الفوضى
المجنونة الزاحفة انطلاقا من مشجب الملابس الذي يزيد فوضاه تناقض الألوان وتنافرها
عليه، ومما لا شك فيه أن الطلاء الأحمر المعتم لجدران غرفتي وما يشقه من نقوش
نباتية بيضاء يشكلان عنصرا محوريا في منظومة الفوضى هذه تماما ككأس الشاي الفارغة
التي يقتلها الشوق للعودة للمطبخ، اللوحة السريالية المعلقة بالجدار المقابل
للمدخل بما تحمله هي نفسها من وحشة وخراب في شجرة مهولة جذورها ضاربة في العمق
وأغصانها من البشر تعطي هذه الفوضى طابعا من الرعب والكلاسيكية بنفس الوقت، وسريري
الذي تنام عليه أشياء كثيرة ليس أحدها أنا، باب الشرفة المفتوح على غير العادة، و
مرآتي التي تعج بملاحظات مكتوبة بخطي السيئ والتي اعتدت أن اكتب عليها ملاحظاتي
الدراسية وغير الدراسية وتصرخ في وجهي كل يوم أنها مرآة ليس مهمتها أن تحفظ عني
ملاحظات دقيقة في المقارنة بين مرضين عصبيين احدهما يوصف بأنه كاذب وعما قليل
سأقوم بمسحها لكتابة شيء أخر والغريب أني صباح اليوم التالي أقوم بتحري جزء ولو
صغير منها بين ملاحظتين أو سطرين لأرى نفسي فيه دون أن أفكر بمسحها أشفق عليها حقا
ولا أستطيع إخفاء نزعتي السادية تجاه الجمادات لكنها بلا شك بما عليها الآن من
ملاحظات حول قصور أو شلل الأعصاب الرأسية تشكل عاملا رئيسا في هذه الفوضى، كل هذه
الفوضى ليست شيئاً غريبا إذ أنني اعرف مكان كل شيء بدقة ساعة الفوضى وهذا يدفعني
للتفكير بأنني أمارس بشكل شبه إرادي "فوضى شبه خلاقة"!.
الفوضى
بأشكال مختلفة كانت العنوان الأبرز لمعظم مراحلي الحياتية، ففي الفترة المدرسية
العليا كانت فوضى الرياضيات وجبتي المفضلة التي ألتهمها بنهم فيلسوف يتعطش
للحتميات والقوانين السببية واليقين، كنت أجد فيها ضالتي وعقار إدماني الوحيد
القادر على سحق أي فكرة فلسفية تقوم على الشك في الشك تثور في رأسي فجأة، لذا كانت
الرياضيات فتنتي سيما حين تتخذ طابعاً فوضوياً تعرف جيداً أنه منطقي حتمي يقيني في
النهاية مما يجعل من فوضاها أكثر أناقة من عاشقين في طريقهما لموعدهما الثاني غير
أن الموعد الثاني ليس جزء من منظومة الفوضى، وهكذا استمرت ثقتي في الرياضيات حتى
حدثت الليلة الأكثر إثارة في حياتي ربما، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف
الليل وأنا "أروض" بعض المعادلات الرياضية في التفاضل والتكامل و انتهت
المعادلة الرياضية بإثبات أن العد 4 يساوي 5، راجعت الخطوات ألف ألف مرة حتى طلوع
الفجر، ثم قمت بتعريف المتغيرات بأرقام ثم قمت بتبسيطها لكن دون جدوى كل الخطوات
الجبرية سليمة، وبصعوبة احتفظت بثقتي في الرياضيات وقضيت ليلة أخرى في محاولة
إيجاد الخطأ بعد أن قمت بتبسيطها أكثر، وحين قررت أن أصارح شخصاً أثق بقدرته في
الرياضيات أدركت خطأي الجبري قبل وصولي إليه، لكني عرضتها عليه بعد ذلك ولم يدرك
الخطأ حتى بينته له وفي اليوم التالي قال لي أن بحث عن ذلك ووجد أنها متناقضة
رياضية شهيرة وقال لي عبارة لم أنساها: " ما تحاول .. ما ضل شي ما اكتشفوه" ، خطأي الوحيد كان
خيبتي الوحيدة وهو أني وثقت بالرياضيات أكثر من اللازم و نسيت أنها أيضاً تخضع
لبعض الاحتمالات !!!!!!!!!!!!
هذه
المعادلة التي أفقدتني الثقة بالرياضيات موضحة بالصورة أدناه، وهي عمليات جبرية
بسيطة للتذكير لمن يهمه فهمها فالعمليات المستخدمة فيها هي التعويض عن
عدد بقيمته، وجواز إضافة نفس القيمة أو طرحها من طرفي معادلة، والوصول لصورة
المربع الكامل ثم تجميعه، ثم إعادة إيجاد جذره !
بعد الثانوية العامة عادت الفوضى بصورة أخرى حين اصطدمت قبل خمسة
أعوام للمرة الأولى بما بات يعرف "بنظرية الفوضى" أو " تأثير
الفراشة" والتي وجدت صدى واسعاً في مجالات علمية وفلسفية مختلفة، والحقيقة
أني قضيت أعوامي الخمس الأخيرة في مد وجزر مع هذه النظرية ومحاولتي المستمرة
للتمرد عليها لكنها في كل مرة أخرجت لسانها لي هازئة في النهاية فأعطتني ما لم أبحث
عنه وحرمتني ما عملت وكافحت واجتهدت لأجله، وتقوم هذه النظرية بشكل مبسط على سحق
فكرة السببية على الأقل بشكلها المقصود وتقوم على أن أعظم التغيرات التي تحدث في
حياتنا الشخصية أو في التاريخ البشري هي نتاج سلسلة تغييرات بدأت بحدث صغيرو تضخمت لتخرج
بصورة تأثير أخر، وفي المرة التي حاولت فيها الارتجال لتمثيل هذه النظرية امام بعض
الأصدقاء كان تمثيلي لها كالتالي:
لنفترض أن طبيباً استدعي بشكل عاجل إلى المستشفى، لإنقاذ حياة مريضة
حامل في شهرها التاسع، ستنجب طفلاً سيصبح فيما بعد قائداً لمنظمة إرهابية ستنفذ
سلسلة من التفجيرات في محطة قطارات في عاصمة أوروبية يقع ضحيتها 70 شخصاً أحد
هؤلاء الضحايا امرأة خمسينية لها ابن وجد علاج للسرطان لكن وفاة أمه جعلته مدمن
مخدرات ويهمل أبحاثه، إذن فقد مات70
شخصاً بكل ما يمكن أن يحدثه ذلك من تغييرات في حياة عائلاتهم وفقدت البشرية
أملاً بإنقاذ حياة الملايين، لكن لنعد قليلاً، ماذا لو أن هذا الطبيب لم يصل
وماتت المريضة وجنينها، لنفترض مثلا أن الطبيب تأخر بسيارته على أحد المفترقات، حيث
قام شرطي المرور بتأخير عبور الاتجاه الذي
هو فيه ليطيل النظر لمراهقة حسناء تقود سيارتها من هذا الاتجاه، هذا الفتاة كانت
قد سرقت مفتاح سيارة أبيها الذي نسي إخفاء المفتاح ذلك اليوم عن ابنته الطائشة، لو لم ينسى هذا
الرجل إخفاء المفتاح، لما خرجت ابنته، ولن يؤخر شرطي المرور الاتجاه الذي جاء منه
الطبيب ولولد الطفل ولحدثت التفجيرات ولفقدت البشرية أملا في علاج السرطان ....
رغم ركاكة تمثيلي السابق، إلا أنه أعظم محاولة ارتجالية قمت بها في
حياتي !
لكني في النهاية، لم أجد وسيلة للخلاص من منظومة الفوضى هذه لم أستطع
التحكم بحياتي تحكما كاملا، لم أروض هذه النظرية وطحنتني كما طحنت غيري ولا زالت
تحدث دون أن ندرك أنه كان يمكن لأحدنا أن يدخل التاريخ ويخلد في سجلات الخالدين لولا أن حادثاً صغيراً تافهاً بعيداً غير متصل
منطقياً منع حدوث ذلك !!
مؤخراً، ازدادت حدة احتكاكي بالفيزياء الحديثة بشكل مريب، قد لا تكون
الفيزياء سيما الحديثة بحتمية الرياضيات لكنها أكثر إثارة للفوضى، وأكثر جمالاً،
طالما كانت الفيزياء بالنسبة لي حفلة صاخبة على أبواب دور العبادة، أو شمس حارقة تخطف قدسية الأولمب ولا تخاف لعنات زيوس !!
ربما أن علاقتي مع الفوضى لن تنتهي حتى لو قمت بترتيب غرفتي، وربما
أنني أجيد التعامل مع الفوضى، وهذا ما يدفعني للاعتقاد أنني لو كنت فتاة لكانت
حياتي أكثر تنظيماً وبالتالي أكثر سخافة .. تبدو لي هذه الفكرة مثيرة للضحك .. ترى
ما الذي كان سيتغير لو كنت فتاة!!! .. أعتقد أنني سأكون فتاة تافهة للغاية .. لكني
على ثقة أنني لو كنت فتاة لما "تعاطيت" أربعة أشياء:
- 1-
المخدرات!
- 2-
البلشر !blusher
- 3-
الكعب العالي!
-
4- قرط الأذن (الحلق)!
لكن حتى وإن لم تنتهي علاقتي بالفوضى، سأقوم الآن بترتيب غرفتي كما
يليق بشخص اعتاد احترام العقائد مهما بدت غريبة، ولا يجوز لشخص مثلي يعرف تماما
إرث حضارة "المايا" التاريخي، وإعجابي الشخصي بفكرة التاريخ الذي يدور في حلقة
محيطها 5000 عام، أن لا يأخذ معتقداتهم
على محمل الجد سيما وإن أكدتها تفسيرات توراتية ونبوءات نوستراداموس، كثيرون سيجدون صعوبة بالغة حتى في التعامل ولو بقليل من الجدية مع ذلك، لكنهم هم أنفسهم يعلمون جيداً أن احتمالية أن يموت أحدهم غدا ليست شيئاً مضحكاً ربما لن يموت أحد غداً سواك !
في هذا المساء الأخير، أغلق كتاباً لم أكمله، وأشرع نافذتي رغم البرد ليصلني وقع خطى السابلة وهم يمرون حتى تكاد تعرف أحلامهم وهزائمهم وأحزانهم من وقع خطاهم فقط !
في هذا المساء الأخير، أغلق كتاباً لم أكمله، وأشرع نافذتي رغم البرد ليصلني وقع خطى السابلة وهم يمرون حتى تكاد تعرف أحلامهم وهزائمهم وأحزانهم من وقع خطاهم فقط !
باسل