"مجد .. مجد، لقد تأخرت عن المدرسة".
طرقات خفيفة على باب غرفتي الموصد ومن خلفه تصيح أختي الصغرى – والوحيدة – "لقد تاخرتُ عن المدرسة"
الآن أعرف أهمية قواعد اللغة، فطالما سمعت هذه الجملة من قبل لكن التاء كانت مبينة على الفتح للمخاطب وكانت ترددها أمي كل صباح لإيقاظي كي أذهب للمدرسة إبان حياتي المدرسية المنصرمة، والآن ذات العبارة لكن التاء مبنية على الضم للمتكلم، وتصرخ بها مها كي أودعها قبل ذهابها للمدرسة.
خرجت من غرفتي ملقيا تحية الصباح، فعاجلتني بالسؤال:
-أين كنت طوال الليل؟ ومتى عدت للبيت؟
هربت من اجابة السؤال الأول وأجبت على الثاني قائلاً:
-عدت قبيل الفجر.
ويبدو أنني انتقصت من نباهتها فعادت لتسأل:
- وأين كنت؟
- كنت أودع صديق ذاهب للسفر
وكنت أعرف أن إجابتي أضعف من أن تخدع طفل ساذج، فكيف اذا كان هذا الطفل هو مها.
لكن مها تغافلت عن ذلك كله لأنها شعرت بعدم رغبتي في الحديث عن الموضوع، فسألت:
- ولماذا لم تنم حتى الآن؟
- لم أستطع النوم..
- إنها الحادية عشرة صباحاً وعلي أن أذهب للمدرسة.
لقد كان هذا صباحا عاديا مع بعض الأسئلة غير العادية فلقد اعتادت مها ايقاظي صباحا كي أودعها قبل ذهابها للمدرسة، ومع أن كل ما أقوم به هو أن نقل شطيرتها التي تكون قد أعدتها مسبقا من طاولة المطبخ لحقيبتها المدرسية أي أنني لا أقوم بشئ يجعلها تعجز عن الذهاب للمدرسة دون إيقاظي، إلا أنها تصر على ذلك لتجعلني أشعر بأنني أحسن رعايتها والاهتمام بها بعدما تركنا القدر وحيدين في هذا البيت الذي كان يوما زاخرا بالحياة فانسحب ساكنوه الواحد تلو الآخر وبقيت انا وهي الحلقة الأقوى في سلسلة الماضي التي تناثرت تباعاً.
قمت بمهمتي الصباحية على أكمل وجه ونقلت شطيرتها التي أعدتها مسبقا من طاولة المطبخ الى حقيبتها ثم ناولتها إياها فدست فيها كتابا كانت تقرأه للتو وقلم رصاص قصير لا أعرف كيف تجيد الكتابة به.
حملت حقيبتها الصغيرة، وربطت حذائها وحدها، كما عقصت وحدها شعرها الطويل الذي ينسدل عادة خلفها وأمام كتفها الأيسر، وارتدت وحدها زيها المخطط الذي يذكرني كل صباح بما لا يدع مجالا للشك أن مها التي تحفظ معلقة عمر بن كلثوم ولامية العرب وتحل أي معادلة تربيعية وتفاضل أي كثير حدود وتعرف أحكام الفقه في الطلاق والزواج ليست سوى أختي التي لم تتجاوز عامها الثامن .
أعوامها الثمانية كانت كافية للحياة كي تسلبها الأب والأخ والأم وبقيت أنا الأخ الذي يعرف كل الذين تسكعوا في شوارع أثينا من فلاسفة وشعراء وعشاق وحمقى ولا يعرف كيف يسعدها، الأخ الذي تنام الكتب على سريره وينام أرضاً ودائما دون نية مسبقة للنوم .
ودعتني بقبلة سريعة وخرجت، ولم أهرع كعادتي للنافذة أراقبها تضيع بين زحام صديقاتها –ربما- بذلك الزي الموحد، لكنها تبقى مها التي لم تسمح لي بالخروج يوماً حتى تثبتني في أحد زوايا البيت وتدور حولي مرتين لتتأكد أني بأفضل صورة.
تعساً لي، كيف سمحت لها بالخروج بهذه السرعة!!
لم تكن مها بعينيها الواسعتين وشعرها الطويل حالك السواد، مجرد أختي الصغرى التي تجمعني بها رابطة الدم بل كانت جزء من مؤامرة الحياة على أمثالي ممكن يتلذذون بنكران الذات بأن جعلت لنا أشخاصاً يمتلكون أسهما بشركات أرواحنا فلا نهبها ولا نبيعها الا باذنهم.
وها هي غزة، بعد أن قضى السياسيون فيها كل نزواتهم، وجربوا كل نظرياتهم،ثم اختفوا جميعا تحت أرضها أو فوق أرض غيرها وتركوها وحدها تغتسل من خطيئتهم بماء البحر وتواجه و أهلها الطيبين آلام الجوع والسغب، لكنها لا زالت جامحة ليست ثيوقراطية ولا أتوقراطية ولا ديموقراطية، فأهلها يمتلكون من اليقين ما يجعلهم يعتقدون دائماً انهم اكبر من أن يغيروا معتقداتهم ، اما نحن يا نسمة فقد كنا نمتلك من المعرفة ما يجعلنا أعجز من أن نحتفظ بعقائدنا لأكثر من لقاء .
من أنا؟
أتذكرين اللقاء الأول، وذاك العائد من معارك الفرقان، لكن سأعترف اني حتى اللقاء الأخير لم أسألك أيضاً: من أنتِ؟
لم أسألك عن عشرين عاماً قضيتها في باريس اعتقدت انك تتعلمين فنون الجاسترونومي بين شعب لم يجد غير القبلة وسيلة لإحراق سعراته الحرارية .
تراك تجيدين فن القبلة الفرنسية يا فتاة الملاجئ الباريسية التي اعتدت ان أناديها فتاة الشانزلزيه؟!
اغفري لي كل خطاياي الاولى ولن أغفر لك خطأك الأخير...
أيها الجسد .. أيها الجسد..
هي ذي غزة، في عامها التاسع للانتفاضة، لكنها حتماً قرأت الإلياذة ولن تقبل ذلك الحصان لأنها ستصدق كاسندرا ولو لعنها أبولو أله الفن والشعر.
إن الذاكرة في حضرة القلم كالضيف الحساس الذي لا تستطيع أن تغير من وضعية جلوسك أمامه فيعتقد انك تشعر بالملل فيعجل بالرحيل، طالما اعتقدت –عكس كثيرين – ان القلم هو عدو الذاكرة الأول فهو يسلبها كينونتها وجمالها بتحويلها لكلمات جافة يقرأها الذين يستحقون والذين لا يستحقون!!
لماذا أكتب إذن !!؟
أعدت للقلم غطاءه .. ورحت أتأمل ذلك السرير الآخر المتيبس في ركن الغرفة ولم يشغله أحد منذ رحيل معتصم، أوشكت أن أتساءل كيف تراك تطيق غربتك؟
لكن "الوطن حيث الأهل " يا أخي فعدت سريعاً لقلمي أصرخ:
بارد سرير الغربة يا أمي ...
بارد سرير الغربة يا أمي..
اكتب يا هذا ...
أيها الجسد .. أيها الجسد ..
- لا مدرسة اليوم .
تقول مها وهي ماثلة أمامي بعدما دخلت كعادتها بكل هدوء دون أن ِاشعر
ابتسمت ابتسامة من كسب الرهان فرغم أن جميع مدارس ومعاهد وجامعات القطاع قد علقت الدوام لحين استقرار الأوضاع الأمنية وتوقف الحرب إلا ان مها تصر أن تذهب يومياً للتأكد أن باب المدرسة مغلق مع أن غيرها قد ذهب ولم يجد الباب ولا المدرسة ووجد توقيع طائرة ال F16 أمامه.
ومع أنني لم أدخر جهداً بالأيام الأولى للحرب بمنعها من الخروج، فحتى الشوارع قد علقت العمل هذه الأيام الا ان كل محاولاتي قوبلت بالرفض فتوقفت لاقتناعي بعبثية المحاولة لذا لم أجادلها هذا الصباح .
لم أشعر للحظة بالقلق عليها رغم أن الموت اصطفي غزة عاصمة له هذه الأيام ليس لقرب المدرسة فالموت في غزة لا يعرف قانون السببية، لكن لذلك الشعور الغريب الذي يداخلني بأنها ستبقى وتعيش طويلاً ويوما سأراها - أو لا أراها – لكنها ستكون شيئا في هذا العالم .
قابلت مها ابتسامتي بابتسامة مماثلة ربما لأنها نجحت بتبديد الكآبة البادية على وجهي منذ الصباح، خرجت من غرفتي قائلة:
-حأروح بكرة كمان .
وكنت أعرف ان استعمالها للعامية يعني أنها بدأت بالمزاح وتأكدت من ذلك لان غداً الجمعة فأجبت بالعامية أيضاً:
-بس بكرة الجمعة يا حلوة
فقالت منتصرة :
- طيب م اليوم كان راس السنة ورحت !!
صدمتني هذه الحقيقة، أولا لمً خرجت مها اليوم وهي تدرك ذلك حتماً خرجت لغرض آخر..
وصدمني أن تكوني قد اخترت هذا التاريخ أيضا يا نسمة..
أتساءل الآن هل كنت لأختار الأبدية؟!
لا، فأعرف أننا سنستيقظ ذات صباح من صباحات أبديتنا ونتمنى أننا كتلك الأوراق الصفراء المتساقطة، او تلك الزهور الذابلة، نحيا حينا ونموت حيناً، لن أغسل وجهي ذاك الصباح لأحيا متمرداً على أبديتي، وأراقب الراهبات العائدات من معابد الآلهة بعد أن خلعن ثوب الطهارة لا لشهوة الخطيئة بل لفرط الملل ووحشة الأبدية، و سأسخر من الفرسان العائدين من معارك الآلهة، مدججين بالخلود يحكون شجاعة فقدت معانيها وحينها فقط سأشتاق لشهدائنا المضرجين بدمائهم وحينها – كما كل حين – سأشتاقك .
لا زلت أذكر قول بودلير:
اعتصمي بالحكمة يا آلامي وكوني أكثر هدوء ..
كنت تطلبين المساء
وها هو قد أتي
لا اعرف أين كتب بودلير هذه الأبيات لكنها حتما كانت آلاماً باريسية تعرفيها جيداً جعلت من هذه الأبيات كتابك المقدس ، سأترك لك كتابك وأستقبل وحدي هذا المساء الاول بعدك..
باسل - رواية نسمة